الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 441 ] فصل ( في الحلال والحرام والمشتبه فيه وحكم الكثير والقليل من الحرام ) .

هل تجب طاعة الوالدين في تناول المشتبه وهو ما بعضه حلال وبعضه حرام ؟ ينبني على مسألة تحريم تناوله وفيها أقوال في المذهب ( أحدهما ) التحريم مطلقا قطع به شرف الإسلام عبد الوهاب في كتابه المنتخب ذكره قبيل باب الصيد . وعلل القاضي وجوب الهجرة من دار الحرب بتحريم الكسب عليه هناك لاختلاط الأموال لأخذه من غير جهته ووضعه في غير حقه قال الأزجي في نهايته هو قياس المذهب كما قلنا في اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة ، وقدمه أبو الخطاب في الانتصار في مسألة اشتباه الأواني .

وقد قال أحمد لا يعجبني أن يأكل منه وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن الذي يتعامل بالربا يؤكل عنده قال : لا ، قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة . وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام } .

وفي البخاري عن أنس بن مالك قال : إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه واشرب من شرابه . .

وعن الحسن بن علي مرفوعا { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه .

( والثاني ) إن زاد الحرام على الثلث حرم الأكل وإلا فلا ، قدمه في الرعاية لأن الثلث ضابط في مواضع ( والثالث ) إن كان الأكثر الحرام حرم وإلا فلا إقامة للأكثر مقام الكل ; لأن القليل تابع ، قطع به ابن الجوزي في المنهاج وذكر الشيخ تقي الدين أنه أحد الوجهين .

وقد نقل الأثرم وغير واحد عن الإمام أحمد فيمن ورث مالا ينبغي إن عرف شيئا بعينه أن يرده وإذا كان الغالب في ماله الفساد تنزه عنه أو نحو هذا ، ونقل عنه حرب في الرجل يخلف مالا إن كان غالبه نهبا أو ربا ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه إلا أن يكون [ ص: 442 ] يسيرا لا يعرف ، ونقل عنه أيضا هل للرجل أن يطلب من ورثة إنسان مالا مضاربة ينفعهم وينتفع قال إن كان غالبه الحرام فلا .

( والرابع ) عدم التحريم مطلقا قل الحرام أو كثر وهو ظاهر ما قطع به وقدمه غير واحد لكن يكره ، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته .

قدمه الأزجي وغيره وجزم به في المغني وعن أبي هريرة مرفوعا { إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه } رواه أحمد .

وروى جماعة من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال : لي جار يأكل الربا ولا يزال يدعوني قال الثوري إن عرفته بعينه فلا تأكله : ومراد ابن مسعود وكلامه لا يخالف هذا .

وروى جماعة من حديث معمر أيضا عن أبي إسحاق عن الزبير بن الحارث عن سلمان قال : إذا كان لك صديق عامل فدعاك إلى طعام فاقبله فإن مهنأه لك وإثمه عليه . قال معمر : وكان عدي بن أرطاة عامل البصرة يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد فيأكل منها ويطعم أصحابه . وبعث عدي إلى الشعبي وابن سيرين والحسن فقبل الحسن والشعبي ورد ابن سيرين قال : وسئل الحسن عن طعام الصيارفة فقال : قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم كانوا يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم .

وقال منصور : قلت لإبراهيم النخعي عريف لنا يصيب من الظلم ويدعوني فلا أجيبه ، فقال إبراهيم : للشيطان غرض بهذا ليوقع عداوة ، قد كان العمال يهمطون ويصيبون ، ثم يدعون فيجابون قلت : نزلت بعامل فنزلني وأجازني قال : اقبل قلت : فصاحب ربا قال : اقبل ما لم تره بعينه .

قال الجوهري : الهمط الظلم والخبط يقال همط الناس فلان يهمطهم حقهم ، والهمط أيضا الأخذ بغير تقدير ، ولأن الأصل الإباحة وكما لو لم يتيقن محرما فإنه لا يحرم بالاحتمال وإن كان تركه أولى ، وقد احتج لهذا [ ص: 443 ] بحديث أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة في الطريق فقال لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها } متفق عليه ، وفي هذا الاحتجاج بهذا نظر ، لكن إن قوي سبب التحريم فظنه فينبغي أن يكون حكم المسألة كآنية أهل الكتاب وثيابهم ، وينبني على هذا الخلاف حكم معاملته وقبول ضيافته وهديته ونحو ذلك .

قال ابن الجوزي بناء على ما ذكره : إنه يحرم الأكثر ويجب السؤال وإن لم يكن أكثر فالورع التفتيش ولا يجب ، فإن كان هو المسئول وعلمت أن له غرضا في حضورك وقبول هديته فلا تثق بقوله وينبغي أن تسأل غيره . انتهى كلامه .

وقد يكون ذلك عذرا في ترك الإجابة إلى الدعوة ولو قلنا بالكراهة كما صرح الشيخ موفق الدين أن ستر الحيطان بستور لا صور فيها أو فيها غير صور الحيوان أن تكون عذرا في ترك الإجابة على رواية الكراهة ، وسبق هذا المعنى بعد فصول الأمر بالمعروف فيما للمسلم على المسلم ، وقد كره معاملة الجندي وإجابة دعوته ، وقد قال المروذي قلت لأبي عبد الله هل للوالدين طاعة في الشبهة ؟ فقال في مثل الأكل قلت : نعم قال ما أحب أن يقيم معهما عليها وما أحب أن يعصيهما ، يداريهما ، ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه . وذكر المروذي له قول الفضيل : كل ما لم يعلم أنه حرام بعينه ، فقال أبو عبد الله : وما يدريه أيهما الحرام ؟ وذكر له المروذي قول بشر بن الحارث وسئل هل للوالدين طاعة في الشبهة ؟ فقال : لا قال أبو عبد الله : هذا شديد قلت لأبي عبد الله : فللوالدين طاعة في الشبهة ؟ فقال : إن للوالدين حقا قلت : فلهما طاعة فيها قال أحب أن تعفيني ، أخاف أن يكون الذي يدخل عليه أشد مما يأتي قلت لأبي عبد الله : إني سألت محمد بن مقاتل العباداني عنها فقال لي : بر والديك . فقال أبو عبد الله : هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال ، وهذا بشر بن الحارث قد قال ما قال ، ثم قال أبو عبد الله : ما أحسن أن يداريهم .

وروى المروذي عن علي بن عاصم أنه سئل عن الشبهة فقال أطع [ ص: 444 ] والديك ، وسئل عنها بشر بن الحارث فقال لا تدخلني بينك وبين والديك .

وذكر الشيخ تقي الدين رواية المروذي ثم قال : وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أن يأكل فقال : إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل قال الشيخ تقي الدين : مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم يعلم أنه حرام ، ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة ، وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل لأنه لا ضرر عليه فيه وهو يطيب نفسهما . انتهى كلامه .

وإن أراد من معه حلال وحرام أن يخرج من إثم الحرام فنقل الجماعة عن أحمد التحريم إلا أن يكثر الحلال واحتج بخبر عدي بن حاتم في الصيد وعن أحمد أيضا إنما قلته في درهم حرام مع آخر وعنه في عشرة فأقل لا تجحف به وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن الرجل يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم حرام لا يعرفه فقال : لا يأكل منها شيئا حتى يعرفه واحتج أبو عبد الله بحديث عدي بن حاتم { أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر فقال : لا تأكل حتى تعلم أن كلبك قتله . قلت له : فإن كانت دراهم كثيرة فقال : ثلاثين أو نحوها فيها درهم حرام أخرج الدرهم قلت : إن بشرا قال تخرج درهما من الثلاثة } ، فقال : بشر بن الوليد قلت : لا بشر بن الحارث قال : ما ظننته إلا قول بشر بن الوليد .

هذا قول أصحاب الرأي وقال القاضي في الخلاف في مسألة اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة : ظاهر مقالة أصحابنا يعني أبا بكر وأبا علي النجاد وأبا إسحاق يتحرى في عشرة طاهرة فيها إناء نجس لأنه قد نص على ذلك في الدراهم فيها درهم حرام ، فإن كانت عشرة أخرج قدر الحرام منها ، وإن كانت أقل امتنع منها ، وإن كانت أقل امتنع من جميعها قال ويجب أن لا يكون هذا حدا ، إنما الاعتبار بما كثر عادة واختيار القاضي في موضع آخر والأصحاب والشيخ وغيرهم أن كلام أحمد ليس على سبيل التحديد وأن الواجب إخراج قدر الحرام لأنه لم يحرم لعينه وإنما حرم لتعلق حق غيره به فإذا أخرج [ ص: 445 ] عوضه زال التحريم عنه كما لو كان صاحبه حاضرا فرضي بعوضه فظاهر هذا ، ولو علم صاحبه أو استهلك فيه كزيت اختلط بزيت وقيل للقاضي في الخلاف في مسألة الأواني قد قلت : إذا اختلط درهم حرام بدراهم يعزل قدر الحرام ويتصرف في الباقي فقال إذا كان للدراهم مالك معين لم يجز أن يتصرف في شيء منها منفردا وإلا عزل قدر الحرام وتصرف في الباقي وكان الفرق بينهما إذا كان معروفا فهو شريك معه فهو يتوصل إلى مقاسمته وإذا لم يكن معروفا فأكثر ما فيه أنه مال للفقراء فيجوز له أن يتصدق به .

وذكر ابن عقيل وابن الصيرفي في النوادر أنه إذا اختلط زيت حرام بمباح تصدق به ، هذا مستهلك والنقد يتحرى قاله أحمد وذكر الخلال عن أبي طالب أنه نقل عن أحمد في الزيت أعجب إلي أن يتصدق به هذا غير الدراهم .

وذكر الأصحاب في النقد أن الورع ترك الجميع وذكر الشيخ تقي الدين أنه لم يتبين له أن ذلك من الورع ومتى جهل قدر الحرام تصدق به بما يراه حراما قاله أحمد فدل هذا أنه يكتفي بالظن وقاله ابن الجوزي قال أحمد : لا يبحث عن شيء ما لم يعلم فهو خبير ، وبأكل الحلال تطمئن القلوب وتلين .

وذلك مذكور في الفقه أول كتاب الشركة ومآل بيت المال في آخر كتاب الزكاة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية