الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 161 ] باب بلاغات مالك ومرسلاته

مما بلغه ، عن الرجال الثقات ، وما أرسله عن نفسه في موطئه ، ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أحد وستون حديثا .

حديث أول من البلاغات

مالك عن الثقة عنده ، عن سليمان بن يسار وعن بسر بن سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فيما سقت السماء ، والعيون ، والبعل العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر .

التالي السابق


وهذا الحديث يتصل من وجوه صحاح ثابتة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وجابر ومعاذ .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قالا : أخبرنا هارون بن سعيد بن الهيثم أبو جعفر الأيلي قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، قال : قال رسول [ ص: 162 ] الله - صلى الله عليه وسلم - : فيما سقت السماء ، والأنهار ، والعيون ، أو كان بعلا العشر ، وما سقي بالسواني ، أو النضح نصف العشر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبد الله بن مسلمة قال : حدثنا بهلول بن راشد عن يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض فيما سقت السماء ، والأنهار ، والعيون إذا كان عثريا يسقى بالماء العشر ، وما سقي بالناضح نصف العشر .

أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو وأحمد بن عمرو بن السرح أبو الطاهر والحارث بن مسكين قراءة عليه - وأنا أسمع عن ابن وهب - قال : أخبرنا عمرو بن الحارث أن أبا الزبير حدثه أنه سمع جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فيما سقت الأنهار والعيون العشر ، وفيما سقي بالسانية نصف العشر .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول [ ص: 163 ] الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فيما سقت الأنهار والعيون العشر ، وما سقي بالسواني ففيه نصف العشر .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير ومحمد بن سليمان المنقري قالا : حدثنا الحكم بن موسى قال : حدثنا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود قال : حدثنا الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب : وما سقت السماء ، وكان سيحا ، أو كان بعلا ، ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق ، وما سقي بالرشاء والدالية ، ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق .

وأخبرنا إبراهيم بن شاكر قال : أخبرنا محمد بن أحمد قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا رجاء بن محمد السقطي قال : حدثنا سعيد بن عامر قال : حدثنا همام عن قتادة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن فيما سقت السماء والعيون العشر ، وما سقي بالنواضح فنصف العشر .

انفرد به همام وغيره ، يرويه عن قتادة عن أبي الخليل .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب أخبرنا هناد بن السري عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن أبي وائل عن معاذ قال : بعثني رسول الله [ ص: 164 ] - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العشر ، وما سقي بالدوالي نصف العشر .

قال أبو عمر :

هكذا قال أبو وائل : عن معاذ وإنما هو أبو وائل عن مسروق عن معاذ .

وأخبرنا محمد بن عمروس قال : حدثنا علي بن عمر الحافظ ، قال : حدثنا محمد بن مخلد قال : حدثنا أحمد بن ملاعب قال : حدثنا محمد بن علي بن المديني قال : سمعت أبي يقول : حدثنا عاصم بن عبد العزيز الأشجعي قال : حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن سليمان بن يسار وبسر بن سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر .

قال عاصم : وحدثنيه مالك وقال : أخبرت عن سليمان بن يسار وبسر بن سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أبا هريرة وسألت الحارث بن عبد الرحمن فقال : أخبرني سعيد بن المسيب وبسر بن سعيد عن أبي هريرة قال محمد بن علي : قال أبي : وأظن مالكا [ ص: 165 ] ترك حديث ابن أبي ذباب ولم يضعه في كتبه ، وما رأيت في كتب مالك عنه شيئا ، قال أحمد بن ملاعب : كذا قال ابن علي بن المديني في آخره : أخبرني سعيد بن المسيب وفي أوله سليمان بن يسار وسألته عنه فقال : نعم هو هكذا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا ابن الأصبهاني قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، وأمرني أن آخذ مما سقت السماء أو سقي بعلا العشر ، وبالدوالي نصف العشر .

قال أبو عمر :

قال النضر بن شميل : البعل : ماء المطر .

وقال يحيى بن آدم : البعل ما كان من الكروم والنخل ، فذهب عروقه في الأرض إلى الماء ، ولا يحتاج إلى السقي الخمس سنين والست ، تحتمل ترك السقي ، قال : والعثري ما يزرع على السحاب ، ويقال له العثير ; لأنه يزرع على السحاب ، ولا يسقى إلا بالمطر خاصة ليس يسقى بغير ماء المطر .

قال يحيى : وفيه جاء الحديث : ما سقي عثريا ، أو غيلا .

قال يحيى : والغيل سيل دون السيل الكثير ، قال : والسيل ماء الوادي إذا سال ، وما كان دون السيل الكثير فهو غيل ، وقيل : الغيل الماء الصافي دون [ ص: 166 ] السيل الكثير ، وقال ابن السكيت : الغيل الماء الجاري على الأرض ، وأما النضح والناضح ، فهي بقر السواني ، والرشاء حبل البئر ، والدلو والدالية الخطارة عندنا ، والغرب الدلو .

وقد جاء في الحديث : ما سقي بالغرب ، أو كان عثريا ، أو سقي نضحا ، أو سيحا ، أو سقي بالرشاء .

وهذه الأحاديث كلها بمعنى واحد ، وأجمع العلماء على القول بظاهرها في المقدار المأخوذ في الشيء المزكى من الزرع ، وذلك العشر في البعل كله من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة - عندهم - كل على أصله ( من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة ) على حسبما قدمنا عنهم في باب عمرو بن يحيى من هذا الكتاب ، وكذلك ما سقت العيون والأنهار ; لأن المئونة فيه قليلة ، واتباعا للسنة ، وأما ما سقي بالدوالي والسواني ، فنصف العشر فيما تجب فيه الزكاة عندهم ، هذا ما لا خلاف فيه بينهم .

واختلفوا في معنى آخر من هذا الحديث : فقالت طائفة : هذا الحديث يوجب العشر في كل ما زرعه الآدميون من الحبوب ، والبقول ، وكل ما أنبتته أشجارهم من الثمرات كلها قليل ذلك وكثيره ، يؤخذ منه العشر ، أو نصف العشر على حسبما ذكرنا عند جداده ، وحصاده ، وقطافه كما قال الله - عز وجل - : ( ، ) وآتوا حقه يوم حصاده ( يريد العشر ، أو نصف العشر ، وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وزفر فقالا في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره العشر ، أو نصف العشر ، إن سقي بالدالية والسانية إلا الحطب ، والقصب ، والحشيش .

[ ص: 167 ] وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا فيما كان له ثمرة باقية ، ثم تجب فيما يبلغ خمسة أوسق ، لا يجب فيما دونه .

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قال : كتب عمر بن عبد العزيز : أن يؤخذ مما أنبتت الأرض من قليل أو كثير العشر .

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إذا بلغ الزعفران خمسة أوسق أخذ منه العشر .

واعتبر مالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي والليث خمسة أوسق وقالوا : لا زكاة فيما دونها ، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المبارك وجمهور أهل الرأي والحديث ، واختلفوا في الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة ، وقد ذكرنا أقاويلهم في ذلك في باب عمرو بن يحيى من هذا الكتاب ، والحمد لله .

وقال داود بن علي في هذا الباب قولا بعضه كقول أبي حنيفة ومن تابعه ، وبعضه كقول سائر الفقهاء ، قال : أما ما يؤكل أو يشرب مما يكال ، أو يزرعه الآدميون من الحبوب كلها والثمار ، فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق ، وأما ما لا يكال ، ولا يضبط بكيل مما ينبته الناس ، ففي قليله وكثيره العشر ، أو نصف العشر على حسبما يسقى به .

[ ص: 168 ] قال أبو عمر :

أما قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : فيما سقت السماء والأنهار والعيون العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر - فمعناه عند جماعة أهل الحجاز وجمهور أهل العراق إذا بلغ المقدار خمسة أوسق ، وكان ما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب ، فحينئذ يجب فيه العشر ، ونصف العشر ، ولا فرق بين أن يرد هذا في حديثين ، أو في حديث واحد ، ويدل على صحة هذا المذهب مع استفاضة في أهل العلم أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحد من أصحابه ، ولا من التابعين بالمدينة أنه أخذ الصدقة من الخضر والبقول ، وكانت عندهم موجودة ، فدل على أن ذلك معفو عنه ، كما عفي عن الدور والدواب ; لأن الأصل العفو ، والوجوب طار عليه .

ذكر عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضميرة عن علي قال : ليس في الخضر صدقة .

وعن إبراهيم بن طهمان عن منصور عن مجاهد قال : ليس في الخضر زكاة .

قال : منصور فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : صدق .

وقال موسى بن طلحة : لم يأخذ معاذ بن جبل من الخضر شيئا ، وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس في الخضر زكاة .

ومما يدل أيضا على ذلك ، وهو مذهب من أوجب الزكاة في الخضر ، أن الزكاة إنما تجب في العين المزكاة بجزء من أجزائها ، وأكثر [ ص: 169 ] الذين أوجبوا الزكاة في البقول أوجبوها في قيمتها ، ولا أصل لأخذ القيمة في الزكاة .

ذكر معمر عن الزهري قال : في الخضر والفاكهة إذا بلغ ثمنها مائتي درهم ففيها خمسة دراهم ، قال : والزيتون يكال ففيه العشر ، وإن سقي بالرشاء ففيه نصف العشر .

قال معمر : وكان في زمن عمر بن عبد العزيز يؤخذ من الورس العشر .

واختلف الفقهاء فيما سقي مرة بماء السماء والنهر ، ومرة بدالية فقال مالك : ينظر إلى ما تم به الزرع فيزكى عليه العشر ، أو النصف العشر ، فأي ذلك كان أكثر سقيه زكي عليه ، هذه رواية ابن القاسم عنه .

وروى ابن وهب عن مالك إذا سقي نصف سنة بالعيون ، ثم انقطعت ، فسقي بقية السنة بالناضح ، فإن عليه نصف زكاته عشرا ، والنصف الآخر نصف العشر ، وقال مرة أخرى : زكاته بالذي تمت به حياته ، وقال الشافعي : يزكي كل واحد منهما بحسابه ، وبهذا كان يفتي بكار بن قتيبة وهو حنفي ، وهو قول يحيى بن آدم .

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : ينظر إلى الأغلب فيزكى به ، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك .

[ ص: 170 ] قال الطحاوي : قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوما أو يومين أنه لا اعتبار به ، ولا يجعل لذلك حصة ، فدل على أن الاعتبار بالأغلب .




الخدمات العلمية