الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            بسط البيان لما أحرم به ، عليه الصلاة والسلام ، في حجته هذه من الإفراد والتمتع والقران

            وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال :

            الأول : الإفراد بالحج .

            روى الإمامان : الشافعي وأحمد ، والشيخان والنسائي عن عائشة وأحمد ، ومسلم ، وابن ماجه ، والبيهقي عن جابر بن عبد الله ، وأحمد ، ومسلم ، والبزار ، عن عبد الله بن عمر ، ومسلم ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن ابن عباس «أنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج مفردا» . وقال الدارقطني : ثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل ومحمد بن مخلد ، قالا : ثنا علي بن محمد بن معاوية البزاز ، ثنا عبد الله بن نافع ، عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد ، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج ، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر ، فبعث عمر فأفرد الحج ، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج ، وتوفي أبو بكر واستخلف عمر ، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج ، ثم حج عمر سنيه كلها فأفرد الحج ، ثم توفي عمر واستخلف عثمان فأفرد الحج ، ثم حصر عثمان ، فأقام عبد الله بن عباس للناس فأفرد الحج . في إسناده عبد الله بن عمر العمري ، وهو ضعيف ، لكن قال الحافظ البيهقي : له شاهد بإسناد صحيح .

            الثاني : القرآن .

            روى الإمام أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه والبيهقي عن عمر بن الخطاب وأحمد عن عثمان وأحمد والبخاري ، وابن حبان ، عن علي ، وأحمد ، والنسائي ، والشيخان ، والبزار ، والبيهقي ، عن أنس ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبزار ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن جابر بن عبد الله ، والإمام أحمد ، وابن ماجه ، عن أبي طلحة : زيد بن سهل الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- وأحمد ، عن سراقة بن مالك ، والإمامان : مالك ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي عن سعد بن أبي وقاص ، والطبراني ، عن عبد الله بن أبي أوفى والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس ، وأحمد ومسلم ، والنسائي ، والدارقطني ، عن الهرماس بن زياد ، وأبو يعلى ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأحمد ، والشيخان ، عن ابن عمرو ، وأحمد ، عن عمران بن حصين ، والدارقطني ، عن أبي قتادة ، والترمذي- وحسنه- عن جابر بن عبد الله ، وأحمد ، عن حفصة ، والشيخان ، والبيهقي ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنهم- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا» .

            الثالث : التمتع .

            روى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، والنسائي ، عن ابن عمر قال : تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة ، إلى الحج ، وأهدى ، فساق الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج . الحديث .

            وروى الشيخان ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تمتعه بالعمرة إلى الحج : وتمتع الناس معه .

            وروى مسلم ، عن عمران بن حصين- رضي الله تعالى عنه- قال : «تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتمتعنا معه» .

            وروى مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : «قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله ، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة» .

            وروى البخاري ، عن حفصة- رضي الله تعالى عنها- أنها قالت يا رسول الله : ما شأن الناس حلوا بعمرة ؟ ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : «إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» .

            وروى الإمام أحمد ، والترمذي وحسنه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال :

            «تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأول من نهى عنه معاوية .

            وروى الشيخان ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- عن معاوية- رضي الله تعالى عنه- قال : «قصرت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمشقص» ، زاد مسلم ، فقلت : «لا أعلم هذه إلا حجة عليك» .

            وروى النسائي ، عن عطاء ، عن معاوية قال : «أخذت من أطراف شعر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمشقص كان معي ، بعد ما طاف بالبيت وبالصفا والمروة ، في أيام العشر» .

            قال قيس بن سعد الراوي ، عن عطاء : «والناس ينكرون هذا على معاوية» .

            وروى البخاري عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج» .

            القول الرابع في كيفية إحرامه صلى الله عليه وسلم الرابع : - الإطلاق .

            روى الشيخان ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا نذكر حجا ولا عمرة وفي لفظ «نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة» ، وفي لفظ «خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا نرى إلا الحج . حتى إذا دنونا من مكة ، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من لم يكن معه هدي إذا طاف بين الصفا والمروة ، أن يحل» .

            قال الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- أخبرنا سفيان ، أخبرنا ابن طاوس ، وإبراهيم بن ميسرة ، وهشام بن حجير سمعوا طاوسا يقول : «خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ، ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء بين الصفا والمروة ، فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة . الحديث» .

            فهذه أربعة أقوال : «الإفراد ، والقران ، والتمتع ، والإطلاق ، ورجحا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا ، ورجحه المحب الطبري ، والحافظ ، وغيرهم ، ويأتي تحقيقه بعد تمام القصة ، قال : أهل في مصلاه ، ثم ركب ناقته ، فأهل أيضا ، ثم أهل لما استقلت به على البيداء وكان يهل بالحج والعمرة تارة ، وبالعمرة تارة ، وبالحج تارة لأن العمرة جزء منه ، فمن ثم قيل : قرن . وقيل : تمتع ، وقيل : أفرد ، وكل ذلك وقع بعد صلاة الظهر ، خلافا لابن حزم ، وصاحب الاطلاع . ( الجمع بين الروايات التي قالت أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج والروايات التي قالت أنه حج قارنا بين الحج والعمرة )

            إن قيل : قد رويتم عن جماعة من الصحابة أنه ، عليه الصلاة والسلام ، أفرد الحج ، ثم رويتم عن هؤلاء بأعيانهم وعن غيرهم ، أنه جمع بين الحج والعمرة ، فما الجمع بين ذلك ؟ فالجواب : أن رواية من روى أنه أفرد الحج محمولة على أنه أفرد أفعال الحج ، ودخلت العمرة فيه نية وفعلا ووقتا ، وهذا يدل على أنه اكتفى بطواف الحج وسعيه عنه وعنها ، كما هو مذهب الجمهور في القارن ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله ، حيث ذهب إلى أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين ، واعتمد على ما روي في ذلك عن علي بن أبي طالب ، وفي الإسناد إليه نظر . وأما من روى التمتع ثم روى القران ، فقد قدمنا الجواب عن ذلك بأن التمتع في كلام السلف أعم من التمتع الخاص والقران ، بل ويطلقونه على الاعتمار في أشهر الحج وإن لم يكن معه حج ، كما قال سعد بن أبي وقاص تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا - يعني معاوية - يومئذ كافر بالعرش . يعني بمكة . وإنما يريد بهذا إحدى العمرتين ; إما الحديبية أو القضاء ، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية قد أسلم ; لأنها كانت بعد الفتح ، وحجة الوداع بعد ذلك سنة عشر ، وهذا بين واضح . والله أعلم .

            الترجيح لرواية من روى القران لوجوه عشرة .

            أحدها : أنهم أكثر كما تقدم .

            الثاني : أن طرق الإخبار بذلك تنوعت كما بيناه .

            الثالث : أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحا ، وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك ولم يجئ شيء من ذلك في الإفراد .

            الرابع : تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها .

            الخامس : أنها صريحة لا تحتمل التأويل بخلاف روايات الإفراد .

            السادس : أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد أو نفوها ، والذاكر الزائد مقدم على الساكت ، والمثبت مقدم على النافي .

            السابع : أن رواة الإفراد أربعة : عائشة ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس ، والأربعة رووا القران ، فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم ، سلمت رواية من عداهم للقران عن معارض ، وإن صرنا إلى الترجيح ، وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ، ولا اختلفت كالبراء ، وأنس ، وعمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين ، وحفصة ، ومن معهم ممن تقدم .

            الثامن : أنه النسك الذي أمر به من ربه ، فلم يكن ليعدل عنه .

            التاسع : أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي ، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه .

            العاشر : أنه النسك الذي أمر به آله وأهل بيته ، واختاره لهم ، ولم يكن ليختار لهم إلا ما اختار لنفسه .

            وثمت ترجيح حادي عشر ، وهو قوله : ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) ، وهذا يقتضي أنها قد صارت جزءا منه ، أو كالجزء الداخل فيه ، بحيث لا يفصل بينها وبينه ، وإنما تكون مع الحج كما يكون الداخل في الشيء معه .

            وترجيح ثاني عشر : وهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصبي بن معبد وقد أهل بحج وعمرة ، فأنكر عليه زيد بن صوحان ، أو سلمان بن ربيعة ، فقال له عمر : هديت لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم ، وهذا يوافق رواية عمر عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الوحي جاءه من الله بالإهلال بهما جميعا ، فدل على أن القران سنته التي فعلها ، وامتثل أمر الله له بها .

            وترجيح ثالث عشر : أن القارن تقع أعماله عن كل من النسكين ، فيقع إحرامه وطوافه وسعيه عنهما معا ، وذلك أكمل من وقوعه عن أحدهما ، وعمل كل فعل على حدة .

            وترجيح رابع عشر : وهو أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل بلا ريب من نسك خلا عن الهدي . فإذا قرن ، كان هديه عن كل واحد من النسكين ، فلم يخل نسك منهما عن هدي ، ولهذا - والله أعلم - أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ساق الهدي أن يهل بالحج والعمرة معا ، وأشار إلى ذلك في المتفق عليه من حديث البراء بقوله : " إني سقت الهدي وقرنت " .

            وترجيح خامس عشر : وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة ، منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بفسخ الحج إليه ، ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه ، ومنها : أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) .

            ومنها : أنه أمر به كل من لم يسق الهدي .

            ومنها : أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه القران لمن ساق الهدي ، والتمتع لمن لم يسق الهدي ، ولوجوه كثيرة غير هذه ، والمتمتع إذا ساق الهدي ، فهو أفضل من متمتع اشتراه من مكة ، بل في أحد القولين : لا هدي إلا ما جمع فيه بين الحل والحرم . فإذا ثبت هذا ، فالقارن السائق أفضل من متمتع لم يسق ، ومن متمتع ساق الهدي لأنه قد ساق من حين أحرم ، والمتمتع إنما يسوق الهدي من أدنى الحل ، فكيف يجعل مفرد لم يسق هديا ، أفضل من متمتع ساقه من أدنى الحل ؟ فكيف إذا جعل أفضل من قارن ساقه من الميقات ، وهذا بحمد الله واضح .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية