الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ ما أمر به الرسول عائشة في حيضها ]

            قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الهدي وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة ، إلا من ساق الهدي ؛ قالت : وحضت ذلك اليوم ، فدخل علي وأنا أبكي ؛ فقال : ما لك يا عائشة ؟ لعلك نفست ؟ قالت : قلت : نعم ، والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي في هذا السفر ؛ فقال : لا تقولن ذلك ، فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج إلا أنك لا تطوفين بالبيت . قالت : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، فحل كل من كان لا هدي معه ، وحل نساؤه بعمرة ، فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير ، فطرح في بيتي ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر ، حتى إذا كانت ليلة الحصبة ، بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخي عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرني من التنعيم ، مكان عمرتي التي فاتتني .

            قال ابن إسحاق : وحدثني نافع ، مولى عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن حفصة ابنة عمر ، قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أن يحللن بعمرة ، قلن : فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا ؟ فقال : إني أهديت ولبدت ، فلا أحل حتى أنحر هديي قد تنازع العلماء في قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفردة ؟ فإذا كانت متمتعة ، فهل رفضت عمرتها ، أو انتقلت إلى الإفراد وأدخلت عليها الحج وصارت قارنة ، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبة ، فهل هي مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضا في موضع حيضها ، وموضع طهرها. واختلف الفقهاء في مسألة مبنية على قصة عائشة ، وهي أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة ، فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ، فهل ترفض الإحرام بالعمرة ، وتهل بالحج مفردا ، أو تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول فقهاء الكوفة ، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني : فقهاء الحجاز ، منهم : الشافعي ومالك ، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه .

            قال الكوفيون : ثبت في " الصحيحين " ، عن عروة ( عن عائشة أنها قالت : " أهللت بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة . قالت : ففعلت فلما قضيت الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت منه . فقال : " هذه مكان عمرتك ) . قالوا : فهذا يدل على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " دعي عمرتك " ، ولقوله : ( انقضي رأسك وامتشطي ) . ولو كانت باقية على إحرامها ، لما جاز لها أن تمتشط ، ولأنه قال للعمرة التي أتت بها من التنعيم : " هذه مكان عمرتك " . ولو كانت عمرتها الأولى باقية لم تكن هذه مكانها ، بل كانت عمرة مستقلة .

            قال الجمهور : لو تأملتم قصة عائشة حق التأمل ، وجمعتم بين طرقها وأطرافها ، لتبين لكم أنها قرنت ، ولم ترفض العمرة ، ففي " صحيح مسلم " : عن جابر - رضي الله عنه - قال : ( أهلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة فوجدها تبكي ، فقال : " ما شأنك " ؟ قالت : شأني أني قد حضت وقد أحل الناس ولم أحل ، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج " ، ففعلت ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة . ثم قال : " قد حللت من حجك وعمرتك " ، قالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : " فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ) .

            وفي " صحيح مسلم " : من حديث طاووس عنها : ( أهللت بعمرة ، وقدمت ولم أطف حتى حضت ، فنسكت المناسك كلها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر : يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .

            فهذه نصوص صريحة ، أنها كانت في حج وعمرة لا في حج مفرد ، وصريحة في أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد ، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة ، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه . وفي بعض ألفاظ الحديث : ( كوني في عمرتك ، فعسى أن الله يرزقكيها ) ، ولا يناقض هذا قوله : " دعي عمرتك " . فلو كان المراد به رفضها وتركها ، لما قال لها : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) ، فعلم أن المراد دعي أعمالها ليس المراد به رفض إحرامها .

            وأما قوله : ( انقضي رأسك وامتشطي ) ، فهذا مما أعضل على الناس ، ولهم فيه أربعة مسالك .

            أحدها : أنه دليل على رفض العمرة كما قالت الحنفية .

            المسلك الثاني : إنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه ، وهذا قول ابن حزم وغيره .

            المسلك الثالث : تعليل هذه اللفظة ، وردها بأن عروة انفرد بها ، وخالف بها سائر الرواة ، وقد روى حديثها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة حديث حيضها في الحج ، فقال فيه : حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي ) ، وذكر تمام الحديث . .. قالوا : فهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة .

            المسلك الرابع : أن قوله " دعي العمرة " ، أي دعيها ، بحالها لا تخرجي منها ، وليس المراد تركها ، قالوا : ويدل عليه وجهان .

            أحدهما : قوله : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .

            الثاني : قوله : " كوني في عمرتك " . قالوا : وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قوله : " هذه مكان عمرتك فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها ، وأن عمرتها قد دخلت في حجها ، فصارت قارنة ، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولا ، فلما حصل لها ذلك ، قال : " هذه مكان عمرتك " .

            وفي " سنن الأثرم " ، عن الأسود ، قال : قلت لعائشة : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : والله ما كانت عمرة ، ما كانت إلا زيارة زرت البيت .

            قال الإمام أحمد : إنما أعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة حين ألحت عليه ، فقالت : يرجع الناس بنسكين ، وأرجع بنسك ؟ فقال : " يا عبد الرحمن ؛ أعمرها " ، فنظر إلى أدنى الحل ، فأعمرها منه . فصل

            واختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولا على قولين .

            أحدهما : أنه عمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث . وفي " الصحيح " عنها ، ( قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من أراد منكم أن يهل بعمرة ، فليهل ، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة " . قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة ، ومنهم من أهل بالحج ، قالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة ) ، وذكرت الحديث . .. " وقوله في الحديث : " دعي العمرة وأهلي بالحج " ، قاله لها بسرف قريبا من مكة ، وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة .

            القول الثاني : أنها أحرمت أولا بالحج وكانت مفردة ، قال ابن عبد البر : روى القاسم بن محمد ، والأسود بن يزيد ، وعمرة كلهم عن عائشة ، ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا بعمرة ، منها : حديث عمرة عنها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا أنه الحج ، وحديث الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم : " لبينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " . قال وغلطوا عروة في قوله عنها : " كنت فيمن أهل بعمرة " . قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمع هؤلاء ، يعني الأسود والقاسم وعمرة ، على الروايات التي ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط ، قال : ويشبه أن يكون الغلط ، إنما وقع فيه أن يكون لم يمكنها الطواف بالبيت ، وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة ، وأنها تركت عمرتها ، وابتدأت بالحج . قال أبو عمر : وقد روى جابر بن عبد الله ، أنها كانت مهلة بعمرة ، كما روى عنها عروة . قالوا : والغلط الذي دخل على عروة ، إنما كان في قوله : ( انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة ، وأهلي بالحج ) .

            وروى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه حدثني غير واحد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وافعلي ما يفعل الحاج ) . فبين حماد أن عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة .

            قلت : من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ، ولا مطعن فيها ، ولا تحتمل تأويلا البتة بلفظ مجمل ليس ظاهرا في أنها كانت مفردة ، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة ، قولها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا أنه الحج . فيا لله العجب ! أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج ، بل خرج للحج متمتعا ، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول : خرجت لغسل الجنابة ؟ وصدقت أم المؤمنين - رضي الله عنها - إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة ، بأمره صلى الله عليه وسلم ، وكلامها يصدق بعضه بعضا .

            وأما قولها : لبينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج ، فقد قال جابر عنها في " الصحيحين " : إنها أهلت بعمرة ، وكذلك قال طاووس عنها في " صحيح مسلم " ، وكذلك قال مجاهد عنها ، فلو تعارضت الروايات عنها ، فرواية الصحابة عنها أولى أن يؤخذ بها من رواية التابعين ، كيف ولا تعارض في ذلك البتة ، فإن القائل فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحابه .

            ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، معناه : تمتع أصحابه ، فأضاف الفعل إليه لأمره به ، فهلا قلتم في قول عائشة : لبينا بالحج إن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج . وقولها : فعلنا ، كما قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسافرنا معه ونحوه . ويتعين قطعا - إن لم تكن هذه الرواية غلطا - أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعمرة وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط ، وهو أعلم الناس بحديثها وكان يسمع منها مشافهة بلا واسطة .

            وأما قوله في رواية حماد : حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " دعي عمرتك " ، فهذا إنما يحتاج إلى تعليله ، ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدقها ، وشهد لها أنها أحرمت بعمرة ، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأن الذي حدث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعللة ، وهي قوله : فحدثني غير واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلا عن عروة عن عائشة .

            فلو قدر التعارض ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا لله العجب ! كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها : " وكنت فيمن أهل بعمرة " سائغا بلفظ مجمل محتمل ، ويقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟ فهؤلاء أربعة رووا عنها ، أنها أهلت بعمرة جابر ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد ، فلو كانت رواية القاسم وعمرة والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء لكانت روايتهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابرا ، ولفضل عروة وعلمه بحديث خالته رضي الله عنها .

            ومن العجب قوله : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمرها أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، توهموا لهذا أنها كانت معتمرة ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرها أن تدع العمرة وتنشئ إهلالا بالحج ، فقال لها : " وأهلي بالحج " ، ولم يقل : " استمري عليه " ، ولا امضي فيه ، وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط بمجرد مخالفته لمذهب الراد ؟ فأين في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة ما يحرم على المحرم تسريح شعره ولا يسوغ تغليط الثقات لنصرة الآراء والتقليد . والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر ، لم يمنع من تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح ، فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد ، والدليل يفصل بين المتنازعين ، فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه فهو جائز . فصل

            وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة مسالك . أحدها : أنها كانت زيادة تطييبا لقلبها وجبرا لها ، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها ، وكانت متمتعة ثم أدخلت الحج على العمرة ، فصارت قارنة ، وهذا أصح الأقوال ، والأحاديث لا تدل على غيره ، وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما .

            المسلك الثاني : أنها لما حاضت أمرها أن ترفض عمرتها ، وتنتقل عنها إلى حج مفرد ، فلما حلت من الحج أمرها أن تعتمر ؛ قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولا ، وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه ، وعلى هذا القول فهذه العمرة كانت في حقها واجبة ، ولا بد منها ، وعلى القول الأول كانت جائزة ، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ، فهي على هذين القولين ، إما أن تدخل الحج على العمرة ، وتصير قارنة ، وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج ، وتصير مفردة ، وتقضي العمرة .

            المسلك الثالث : أنها لما قرنت ، لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة ، لأن عمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد .

            المسلك الرابع : أنها كانت مفردة ، وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهرت ، وقضت الحج ، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام ، وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية ، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف ، بل هو أضعف المسالك في الحديث .

            وحديث عائشة هذا يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك .

            أحدها : اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد .

            الثاني : سقوط طواف القدوم عن الحائض ، كما أن حديث صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل في سقوط طواف الوداع عنها .

            الثالث : أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز ، كما يجوز للطاهر ، وأولى ؛ لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك .

            الرابع : أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها ، إلا أنها لا تطوف بالبيت .

            الخامس : أن التنعيم من الحل .

            السادس : جواز عمرتين في سنة واحدة ، بل في شهر واحد .

            السابع : أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة ، وحديث عائشة أصل فيه .

            الثامن : أنه أصل في العمرة المكية ، وليس مع من يستحبها غيره ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر هو ولا أحد ممن حج معه من مكة خارجا منها إلا عائشة وحدها ، فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلا لقولهم ، ولا دلالة لهم فيها ، فإن عمرتها إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول : إنها رفضتها ، فهي واجبة قضاء لها ، أو تكون زيادة محضة ، وتطييبا لقلبها عند من يقول : إنها كانت قارنة ، وإن طوافها وسعيها أجزأها عن حجها وعمرتها . والله أعلم . فصل

            وأما كون عمرتها تلك مجزئة عن عمرة الإسلام ، ففيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا : لا تجزئ ، قالوا : العمرة المشروعة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعلها نوعان لا ثالث لهما : عمرة التمتع ، وهي التي أذن فيها عند الميقات ، وندب إليها في أثناء الطريق وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة . الثانية : العمرة المفردة التي ينشأ لها سفر ، كعمره المتقدمة ، ولم يشرع عمرة مفردة غير هاتين ، وفي كلتيهما المعتمر داخل إلى مكة .

            وأما عمرة الخارج إلى أدنى الحل فلم تشرع . وأما عمرة عائشة ، فكانت زيارة محضة ، وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن عمرة القارن تجزئ عن عمرة الإسلام ، وهذا هو الصواب المقطوع به ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) ، وفي لفظ : " يجزئك " ، وفي لفظ : " يكفيك " . وقال : ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) ، وأمر كل من ساق الهدي أن يقرن بين الحج والعمرة ، ولم يأمر أحدا ممن قرن معه وساق الهدي بعمرة أخرى غير عمرة القران ، فصح إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعا وبالله التوفيق . فصل

            وأما موضع حيضها ، فهو بسرف بلا ريب ، وموضع طهرها قد اختلف فيه ، فقيل : بعرفة هكذا روى مجاهد عنها ، وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما ، والحديثان صحيحان ، وقد حملهما ابن حزم على معنيين ، فطهر عرفة : هو الاغتسال للوقوف بها عنده ، قال : لأنها قالت : تطهرت بعرفة ، والتطهر غير الطهر ، قال : وقد ذكر القاسم يوم طهرها ، أنه يوم النحر ، وحديثه في " صحيح مسلم " . قال : وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضا ، وهما أقرب الناس منها . وقد روى أبو داود : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عنها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين هلال ذي الحجة . .. فذكرت الحديث ، وفيه فلما كانت ليلة البطحاء ، طهرت عائشة ، وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم : إنه حديث منكر ، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها ، وهو قوله : إنها طهرت ليلة البطحاء ، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال ، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست من كلام عائشة ، فسقط التعلق بها ، لأنها ممن دون عائشة ، وهي أعلم بنفسها . قال : وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد ، وحماد بن زيد ، فلم يذكرا هذه اللفظة .

            قلت : يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه .

            أحدها : أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة .

            الثاني : أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها .

            الثالث : أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث ، وفيه : فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ، وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها ، لكن قال مجاهد عنها : فتطهرت بعرفة ، والقاسم قال : يوم النحر . وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما كان بسرف ، : ( من لم يكن معه هدي ، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا ) ، وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات .

            فلما كان بمكة ، أمر أمرا حتما من لا هدي معه أن يجعلها عمرة ويحل من إحرامه ، ومن معه هدي أن يقيم على إحرامه ، ولم ينسخ ذلك شيء البتة ، بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها ، هل هي لعامهم ذلك أم للأبد ، قال : ( بل للأبد ، وإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة ) .

            وقد روى عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه ، وأحاديثهم كلها صحاح ، وهم عائشة وحفصة أما المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق ، وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس ، وسبرة بن معبد الجهني ، وسراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنهم ، ونحن نشير إلى هذه الأحاديث .

            ففي " الصحيحين " : عن ابن عباس ، ( قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله ! أي الحل ؟ فقال " الحل كله ) .

            وفي لفظ لمسلم : ( قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأربع خلون من العشر إلى مكة ، وهم يلبون بالحج ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة ، وفي لفظ : وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي ) .

            وفي " الصحيحين " عن جابر بن عبد الله : ( أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج ، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة ، وقدم علي - رضي الله عنه - من اليمن ومعه هدي ، فقال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة ، ويطوفوا ، ويقصروا ، ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، قالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت ) ، وفي لفظ : فقام فينا فقال : ( لقد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم ، وأبركم ، ولولا أن معي الهدي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي ، فحلوا " فحللنا ، وسمعنا وأطعنا ) ، وفي لفظ : ( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا ، أن نحرم إذا توجهنا إلى منى . قال : فأهللنا من الأبطح ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم : يا رسول الله ! لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال للأبد ) .

            وهذه الألفاظ كلها في الصحيح ، وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال : إن ذلك كان خاصا بهم ، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده لا للأبد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه للأبد .

            وفي " المسند " : عن ابن عمر ( قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وأصحابه مهلين بالحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " . قالوا : يا رسول الله ! أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا ؟ قال : " نعم " وسطعت المجامر ) .

            وفي " السنن " : عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بعسفان ، قال سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله ! اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ، فقال : " إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجة عمرة ، فإذا قدمتم ، فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، فقد حل إلا من معه هدي ) .

            وفي " الصحيحين " عن عائشة : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج . .. فذكرت الحديث ، وفيه : ( فلما قدمنا مكة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه "اجعلوها عمرة " ، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي . .. ) ، وذكرت باقي الحديث .

            وفي لفظ للبخاري : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج ، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن ، فأحللن ) .

            وفي لفظ لمسلم : ( دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار . قال : أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت . ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ، ثم أحل كما حلوا ) . وقال مالك : عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، قالت : سمعت ( عائشة تقول : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما دنونا من مكة ، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل ) ، قال يحيى بن سعيد : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك والله بالحديث على وجهه .

            وفي " صحيح مسلم " : عن ابن عمر ، قال : حدثتني حفصة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع ، فقلت : ما منعك أن تحل ؟ فقال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي ) .

            وفي " صحيح مسلم : ( عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، خرجنا محرمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه هدي فليقم على إحرامه ، ومن لم يكن معه هدي فليحلل ) ، وذكرت الحديث .

            وفي " صحيح مسلم " أيضا : ( عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج صراخا ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي . فلما كان يوم التروية ، ورحنا إلى منى ، أهللنا بالحج ) .

            وفي " صحيح البخاري " : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : ( أهل المهاجرون والأنصار ، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وأهللنا فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي . .. ) ( نقل الخلاف فيمن لم يسق الهدي هل له فسخ أم لا )

            وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي : كان ذلك من خصائص الصحابة ، ثم نسخ جواز الفسخ لغيرهم . وتمسكوا بقول أبي ذر ، رضي الله عنه : لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم . وأما الإمام أحمد فرد ذلك وقال : قد رواه أحد عشر صحابيا ، فأين تقع هذه الرواية من ذلك ؟! وذهب ، رحمه الله ، إلى جواز الفسخ لغير الصحابة . وقال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، بوجوب الفسخ على كل من لم يسق الهدي ، بل عنده أنه يحل شرعا إذا طاف بالبيت ولم يكن ساق هديا صار حلالا بمجرد ذلك ، وليس عنده النسك إلا القران لمن ساق الهدي ، أو التمتع لمن لم يسق . فالله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية