الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وقوفه ، عليه الصلاة والسلام ، بالمشعر الحرام ، ودفعه من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، وإيضاعه في وادي محسر

            لما برق الفجر ، صلاها في أول الوقت خلافا لمن زعم أنه صلاها قبل الوقت بأذان وإقامة ، يوم النحر ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر ، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك ، ثم ركب القصواء حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فوقف على قزح وقال : «كل المزدلفة موقفنا إلا بطن محسر» ، فاستقبل القبلة ، وأخذ في الدعاء والتضرع والتهليل ، والتكبير ، والذكر ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، وذلك قبل طلوع الشمس .

            قلت : وكان أهل الجاهلية لا يدفعون حتى تطلع الشمس على ثبير ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن قريشا خالفت هدي إبراهيم ، فدفع طلوع الشمس .

            وهنالك سأله عروة بن مضرس بن الطائي ، فقال : يا رسول الله : إني جئت من جبل طيئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من شهد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد أتم حجه وقضى تفثه» . وبهذا احتج من ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ، ركن كعرفة ، وهو مذهب اثنين من الصحابة : ابن عباس ، وابن الزبير - رضي الله عنهما - ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود الظاهري ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، واختاره المحمدان : ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، ولهم ثلاث حجج . هذه إحداها ، والثانية : قوله تعالى : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) [ البقرة 198 ] .

            والثالثة : فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي خرج مخرج البيان لهذا الذكر المأمور به .

            واحتج من لم يره ركنا ، بأمرين :

            أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر ، وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان ، صح حجه ، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنا لم يصح حجه .

            الثاني : أنه لو كان ركنا ، لاشترك فيه الرجال والنساء ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء بالليل ، علم أنه ليس بركن ، وفي الدليلين نظر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قدمهن بعد المبيت بمزدلفة ، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة ، والواجب هو ذلك . وأما توقيت الوقوف بعرفة إلى الفجر ، فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركنا ، وتكون تلك الليلة وقتا لهما كوقت المجموعتين من الصلوات ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يخرجه عن أن يكون وقتا لهما حال القدرة . ثم سار بمزدلفة مردفا للفضل بن عباس ، وهو يلبي في مسيره ، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش ، وفي طريقه ذلك ، أمر الفضل بن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات ، ولم يكسرها من الجبل ، تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده ولا التقطها بالليل ، فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول : «أمثال هؤلاء ، فارموا ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» ،

            وفي طريقه تلك عرضت له امرأة من خثعم جميلة ، فسألته عن الحج عن أبيها- وكان شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة- فأمرها أن تحج عنه ، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فوضع يده على وجهه فصرفه إلى الشق الآخر لئلا تنظر إليه ولا ينظر إليها .

            قلت : في حديث جابر وكان الفضل رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، والله تعالى أعلم .

            فقال العباس لويت عنق ابن عمك ، فقال : «رأيت شابا وشابة ، فلم آمن الشيطان عليهما» .

            وسأله آخر هناك عن أمه ، وقال : «إنها عجوز كبيرة ، وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها» ، قال : «أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ » قال : نعم . قال «فحج عن أمك»

            فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير ، وهذه كانت عادته- صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه ، فإن هنالك أصاب الفيل ما قص الله علينا . ولذلك سمي الوادي وادي محسر ، لأن الفيل حسر فيه أي أعيا وانقطع عن الذهاب .

            ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه ، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام ، فبين كل مشعرين برزخ ليس منها ، فمنى من الحرم ، وهي مشعر ، ومحسر من الحرم وليس بمشعر ، ومزدلفة حرم ومشعر ، وعرنة ليست بمشعر ، وهي من الحل وعرفة حل ومشعر .

            قلت : كذا في أكثر الروايات .

            وفي حديث أم جندب ، عند أبي داود وغيره ، أنه كان راكبا يظله الفضل بن العباس وهو غريب مخالف للروايات الصحيحة .

            وسلك الطريق الوسطى بين الطريقين ، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى .

            قلت : قال ابن سعد : ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية