الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية [ ص: 169 ] أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون . وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أفتوني في أمري أي : بينوا لي ما أفعل ، وأشيروا علي . قال الفراء : جعلت المشورة فتيا ، وذلك جائز لسعة اللغة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ما كنت قاطعة أمرا أي : فاعلته حتى تشهدون أي . تحضرون ; والمعنى : إلا بحضوركم ومشورتكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا نحن أولو قوة فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنهم أرادوا القوة في الأبدان . والثاني : كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيما أرادوا بذلك القول قولان أحدهما : تفويض الأمر إلى رأيها . والثاني : تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قالوا : والأمر إليك أي : في القتال وتركه . قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية قال الزجاج : المعنى : إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أفسدوها أي : خربوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي : أهانوا أشرافها ليستقيم لهم الأمر . ومعنى الكلام : أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وكذلك يفعلون فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه من تصديق الله تعالى لقولها ، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : من تمام كلامها ; والمعنى : وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إذا دخلوا بلادنا ، حكاه الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 170 ] قوله تعالى: وإني مرسلة إليهم بهدية قال ابن عباس : إنما أرسلت الهدية لتعلم أنه إن كان نبيا لم يرد الدنيا ، وإن كان ملكا فسيرضى بالحمل ، وأنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كل لبنة مائة رطل ; وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة ، وثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف الذكر من الأنثى ، ثم كتبت إليه : إني قد بعثت إليك بهدية فاقبلها ، وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر ، فأدخل فيها خيطا واختم على طرفي الخيط بخاتمك ، وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة : فميز بين الجواري والغلمان ; فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه ، فقال له : انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال [لبنا] من الذهب ; فانطلق ، فبعث الشياطين ، فقطعوا اللبن من الجبال وطلوه بالذهب وفرشوه ، ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر ، فلما جاء الرسل ، قال بعضهم لبعض : كيف تدخلون على هذا الرجل بثلاث لبنات ، وعنده ما رأيتم؟! فقال رئيسهم : إنما نحن رسل ، فدخلوا عليه ، فوضعوا اللبن بين يديه ، فقال : أتمدونني بمال؟ ثم دعا ذرة فربط فيها خيطا وأدخلها في ثقب الياقوتة حتى خرجت من طرفها الآخر ، ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إليهم ، ثم ميز بين الغلمان والجواري ، هذا كله مروي عن ابن عباس . وقال مجاهد : جعلت لباس الغلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان ، فميزهم ولم يقبل هديتها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 171 ] وفي عدد الوصائف والوصفاء خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : ثلاثون وصيفا وثلاثون وصيفة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : خمسمائة غلام و خمسمائة جارية ، قاله وهب . والثالث : مائتا غلام ومائتا جارية ، قاله مجاهد . والرابع : عشرة غلمان وعشر جوار ، قاله ابن السائب .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس : مائة وصيف ومائة وصيفة ، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ما ميزهم به ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه أمرهم بالوضوء ، فبدأ الغلام من مرفقه إلى كفه ، وبدأت الجارية من كفها إلى مرفقها ، فميزهم بذلك ، قاله سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن الغلمان بدؤوا بغسل ظهور السواعد قبل بطونها ، والجواري على عكس ذلك ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أن الغلام اغترف بيده ، والجارية أفرغت على يدها ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء في التفسير أنها أمرت الجواري ان يكلمن سليمان بكلام الرجال ، وأمرت الرجال أن يكلموه كلام النساء ، وأرسلت قدحا تسأله أن يملأها ماء ليس من [ماء] لسماء ولا من ماء الأرض ، فأجرى الخيل وملأه من عرقها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فناظرة بم يرجع المرسلون أي : بقبول أم برد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وأصل " بم " :بما ، وإنما أسقطت الألف لأن العرب إذا كانت " ما " بمعنى " أي " ثم وصلوها بحرف خافض ، أسقطوا ألفها ، تفريقا بين الاستفهام والخبر ، كقوله : عم يتساءلون [النبأ : 1] و قالوا فيم كنتم؟ [النساء : 97] ، وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 172 ]

                                                                                                                                                                                                                                      على ما قام يشتمنا لئيم كخنزير تمرغ في رماد؟



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية