الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ( رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى بعد ما صلى الظهر بمكة )

            ثم رجع إلى منى ، واختلف أين صلى الظهر يومئذ ففي " الصحيحين " : عن ابن عمر ، أنه صلى الله عليه وسلم ( أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى ) .

            وفي " صحيح مسلم " : عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم ( صلى الظهر بمكة ) وكذلك قالت عائشة . واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر فقال أبو محمد بن حزم : قول عائشة وجابر أولى ، وتبعه على هذا جماعة ، ورجحوا هذا القول بوجوه .

            أحدها : أنه رواية اثنين ، وهما أولى من الواحد .

            الثاني : أن عائشة أخص الناس به صلى الله عليه وسلم ، ولها من القرب والاختصاص به والمزية ما ليس لغيرها .

            الثالث : أن سياق جابر لحجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها أتم سياق ، وقد حفظ القصة وضبطها ، حتى ضبط جزئياتها حتى ضبط منها أمرا لا يتعلق بالمناسك ، وهو نزول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع في الطريق ، فقضى حاجته عند الشعب ، ثم توضأ وضوءا خفيفا ، فمن ضبط هذا القدر فهو بضبط مكان صلاته يوم النحر أولى .

            الرابع : أن حجة الوداع كانت في آذار ، وهو تساوي الليل والنهار ، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى ، وخطب بها الناس ، ونحر بدنا عظيمة وقسمها ، وطبخ له من لحمها ، وأكل منه ، ورمى الجمرة ، وحلق رأسه ، وتطيب ، ثم أفاض ، فطاف وشرب من ماء زمزم ، ومن نبيذ السقاية ، ووقف عليهم وهم يسقون ، وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى ، بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار .

            الخامس : أن هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي ، فقد كانت عادته صلى الله عليه وسلم في حجته الصلاة في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين ، فجرى ابن عمر على العادة ، وضبط جابر وعائشة رضي الله عنهما الأمر الذي هو خارج عن عادته ، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ . ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر لوجوه .

            أحدها : أنه لو صلى الظهر بمكة ، لم تصل الصحابة بمنى وحدانا وزرافات ، بل لم يكن لهم بد من الصلاة خلف إمام يكون نائبا عنه ، ولم ينقل هذا أحد قط ، ولا يقول أحد : إنه استناب من يصلي بهم ، ولولا علمه أنه يرجع إليهم فيصلي بهم . لقال : إن حضرت الصلاة ولست عندكم ، فليصل بكم فلان ، وحيث لم يقع هذا ولا هذا ، ولا صلى الصحابة هناك وحدانا قطعا ، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلوا عزين ، علم أنهم صلوا معه على عادتهم .

            الثاني : أنه لو صلى بمكة ، لكان خلفه بعض أهل البلد وهم مقيمون ، وكان يأمرهم أن يتموا صلاتهم ، ولم ينقل أنهم قاموا فأتموا بعد سلامه صلاتهم ، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا ، بل هو معلوم الانتفاء قطعا ، علم أنه لم يصل حينئذ بمكة . وما ينقله بعض من لا علم عنده أنه قال : ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) فإنما قاله عام الفتح ، لا في حجته .

            الثالث : أنه من المعلوم أنه لما طاف ، ركع ركعتي الطواف ، ومعلوم أن كثيرا من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه ، فلعله لما ركع ركعتي الطواف ، والناس خلفه يقتدون به ، ظن الظان أنها صلاة الظهر ، ولا سيما إذا كان ذلك في وقت الظهر ، وهذا الوهم لا يمكن رفع احتماله بخلاف صلاته بمنى ، فإنها لا تحتمل غير الفرض .

            الرابع : أنه لا يحفظ عنه في حجه أنه صلى الفرض بجوف مكة ، بل إنما كان يصلي بمنزله بالأبطح بالمسلمين مدة مقامه كان يصلي بهم أين نزلوا لا يصلي في مكان آخر غير المنزل العام .

            الخامس : أن حديث ابن عمر متفق عليه ، وحديث جابر من أفراد مسلم . فحديث ابن عمر أصح منه ، وكذلك هو في إسناده فإن رواته أحفظ وأشهر وأتقن ، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله بن عمر العمري ، وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع ؟

            السادس : أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه ، فروي عنها على ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه طاف نهارا ، الثاني : أنه أخر الطواف إلى الليل ، الثالث : أنه أفاض من آخر يومه فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ، ولا مكان الصلاة بخلاف حديث ابن عمر .

            السابع : أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع ، فإن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به ، ولم يصرح بالسماع بل عنعنه ، فكيف يقدم على قول عبيد الله : حدثني نافع عن ابن عمر .

            الثامن : أن حديث عائشة ليس بالبين أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ، فإن لفظه هكذا : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات . فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنه صلى الظهر يومئذ بمكة ، وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر : أفاض يوم النحر ثم صلى الظهر بمنى ، يعني راجعا ، وأين حديث اتفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به . والله أعلم . وكان رمي الجمار حين تزول الشمس قبل الصلاة ، وكان إذا رمى الجمرتين علاهما ورمى جمرة العقبة من بطن الوادي .

            وكان يقف عند الجمرة الأولى أكثر مما يقف عند الثانية ، ولا يقف عند الثالثة ، وإذا رماها انصرف ، وكان إذا رمى الجمرتين وقف عندهما ، ورفع يديه لا يقول ذلك في رمي العقبة فإذا رماها انصرف .

            ونهى أن يبيت أحد بليالي منى ، ورخص للرعاة أن يبيتوا عند منى ، من جاء منهم فرمى بالليل أرخص له في ذلك وقال : ارموا بمثل حصى الخذف .

            كان أزواجه يرمين مع الليل ، ثم رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى منى من يومه ذلك فبات بها ، فلما أصبح انتظر زوال الشمس ، فلما زالت الشمس مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب ، فبدأ بالجمرة الأولى ، التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة ، يقول مع كل حصاة : «الله أكبر» ثم يقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل فقام مستقبل القبلة ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلا بقدر سورة البقرة ، ثم أتى- صلى الله عليه وسلم- إلى الجمرة الوسطى فرماها كذلك ، ثم انحدر ذات اليسار ، مما يلي الوداع فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول ثم أتى الجمرة الثالثة ، وهي جمرة العقبة ، فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه فرماها بسبع حصيات كذلك ، ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال ، ولا جعلها عن يمينه ، واستقبل البيت وقت الرمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء . فلما أكمل الرمي رجع من فوره ، ولم يقف عندها ، فقيل : لضيق المكان بالجبل ، وقيل - وهو أصح : إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها ، فلما رمى جمرة العقبة ، فرغ الرمي ، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها ، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة ؛ إذ كان يدعو في صلبها ، فأما بعد الفراغ منها ، فلم يثبت عنه أنه كان يعتاد الدعاء ، ومن روى عنه ذلك فقد غلط عليه ، وإن روي في غير الصحيح أنه كان أحيانا يدعو بدعاء عارض بعد السلام ، وفي صحته نظر .

            وبالجملة فلا ريب أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها ، وعلمها الصديق إنما هي في صلب الصلاة ، وأما حديث معاذ بن جبل : ( لا تنس أن تقول دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك ، وحسن عبادتك ) فدبر الصلاة يراد به آخرها قبل السلام منها ، كدبر الحيوان ويراد به ما بعد السلام كقوله : ( تسبحون الله وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ) الحديث . والله أعلم . والذي يغلب على الظن أنه أنه كان يرمي قبل الصلاة ، ثم يرجع فيصلي ، لأن جابرا وغيره قالوا : كان يرمي إذا زالت الشمس فعقبوا زوال الشمس برميه وأيضا فإن وقت الزوال للرمي أيام منى ، كطلوع الشمس لرمي يوم النحر .

            وروى الترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي الجمار إذا زالت الشمس زاد ابن ماجه . قدر ما إذا فرغ من رميه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر .

            وذكر الإمام أحمد : أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرمي يوم النحر راكبا ، وأيام منى ماشيا ، في ذهابه ورجوعه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية