الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ولم يتعجل- صلى الله عليه وسلم- في يومين ، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة ، وأفاض- صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء بعد الظهر ، إلى المحصب وهو الأبطح ، وهو خيف بني كنانة فوجد أبا رافع قد ضرب فيه قباء هنالك ، وكان على ثقله توفيقا من الله تعالى دون أن يأمره به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة .

            فطاف للوداع ليلا سحرا ، ولم يرمل في هذا الطواف .

            ثم خرج إلى أسفل مكة قلت : من المسجد من باب الحرورية وهو باب الخياطين . رواه الطبراني ، عن ابن عمر .

            وأخبرته صفية أنها حائض ، فقال : «أحابستنا هي ؟ » فقيل إنها قد أفاضت ، قال : «فلتنفر إذن» ، ورغبت إليه عائشة تلك الليلة أن يعمرها عمرة مفردة فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأ عن حجها وعمرتها فأبت إلا أن تعتمر عمرة منفردة فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم ، ففرغت من عمرتها ليلا ، ثم وافت المحصب مع أخيها فأتيا في جوف الليل ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : فرغتما ؟ قالت : نعم .

            فنادى بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس ، ثم طاف بالبيت قبل صلاة الصبح ، هذا لفظ البخاري عنها من طريق القاسم .

            وفي الصحيح من طريق الأسود عنها قالت : خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا نرى إلا الحج فذكر الحديث .

            فلما كانت ليلة الحصبة قلت : يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع أنا بحجة ، فقال : «أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ؟ » ، قلت : لا : قال : «فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ، فأهلي بعمرة ، ثم موعدك مكان كذا وكذا» .

            قالت عائشة : فلقيني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مصعدا على أهل مكة وأنا منهبطة ، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها .

            وظاهر هذا أنهما تقابلا في الطريق ، وفي الأول أنه انتظرها في منزله فلما جاءت نادى بالرحيل في أصحابه ، وقولها تعني وهو مصعد من مكة ، وأنا منهبطة عليها للعمرة ، وهذا ينافي انتظاره لها في المحصب ، قال : فإن كان حديث الأسود محفوظا عنها فصوابه «لقيني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا مصعدة من مكة وهو منهبط إليها فإنها طافت وقضت عمرتها ثم أصعدت لميعاده فوافته وهو قد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع ، فارتحل وأذن في الناس بالرحيل» ، ولا وجه لحديث الأسود غير هذا .

            ويؤيد هذا ما رواه الشيخان عنها من طريق- قالت : حين قضى الله الحج ونفرنا من منى ، فنزلنا بالمحصب فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال : اخرج بأختك من الحرم ثم افرغا من طوافها ، ثم ائتياني بها بالمحصب ، قالت : فقضى الله العمرة وفرغنا من طوافنا من جوف الليل ، وأتيناه بالمحصب وقال : «فرغتما ؟ » قلنا : نعم فأذن في الناس بالرحيل .

            قلت : أتى سعد بن أبي وقاص بعد حجه يعوده من وجع أصابه ، فقال : يا رسول الله بي ما ترى من الوجع ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة فأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا . قلت : فالشطر ؟ ، قال : لا . قال : «الثلث والثلث كثير ، إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ، إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعله في في امرأتك» ، فقال : يا رسول الله : أخلف بعد أصحابي ؟ فقال : «إنك لن تخلف ، فتعمل عملا صالحا إلا تزداد خيرا ورفعة ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ، ويضر بك آخرون ، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم» ، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة وخلف على سعد بن أبي وقاص رجلا وقال : إن مات بمكة فلا تدفنه بها يكره أن يموت الرجل في الأرض التي هاجر منها .

            موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع ففي " الصحيحين " : عن أم سلمة ، قالت : ( شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة . قالت : فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت ، وهو يقرأ ب ( والطور وكتاب مسطور ) ) فهذا يحتمل أن يكون في الفجر وفي غيرها ، وأن يكون في طواف الوداع وغيره ، فنظرنا في ذلك ، فإذا البخاري قد روى في " صحيحه " في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج ، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت ، وأرادت الخروج ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت صلاة الصبح ، فطوفي على بعيرك والناس يصلون ، ففعلت ذلك ، فلم تصل حتى خرجت ) . وهذا محال قطعا أن يكون يوم النحر فهو طواف الوداع بلا ريب ، فظهر أنه صلى الصبح يومئذ عند البيت ، وسمعته أم سلمة يقرأ فيها بالطور . وقد اختلف السلف في التحصيب هل هو سنة ، أو منزل اتفاق ؟ على قولين . فقالت طائفة : هو من سنن الحج ، فإن في " الصحيحين " عن أبي هريرة ، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى : نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر ) . يعني بذلك المحصب ؛ وذلك أن قريشا وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ، ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ورسوله ، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى .

            قالوا : وفي " صحيح مسلم " : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، وعمر كانوا ينزلونه . وفي رواية لمسلم عنه أنه كان يرى التحصيب سنة .

            وقال البخاري ( عن ابن عمر : كان يصلي به الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، ويهجع ، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ) .

            وذهب آخرون منهم ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس بسنة ، وإنما هو منزل اتفاق ففي " الصحيحين " : عن ابن عباس : ( ليس المحصب بشيء ، وإنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه ) .

            وفي " صحيح مسلم " : ( عن أبي رافع لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بمن معي بالأبطح ، ولكن أنا ضربت قبته ، ثم جاء فنزل . فأنزل الله فيه بتوفيقه تصديقا لقول رسوله : " نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة " ، وتنفيذا لما عزم عليه ، وموافقة منه لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ) .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية