الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 358 ] الآية السادسة

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } .

                                                                                                                                                                                                              فيها أربع مسائل : المسألة الأولى : في سبب نزولها :

                                                                                                                                                                                                              روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله مما قالوا ، وكل حدثني بطائفة من الحديث ، وبعض حديثهم يصدق بعضا ، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض .

                                                                                                                                                                                                              فالذي حدثني عروة عن عائشة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فالتمست عقدي ، وحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت ، وهم يحسبون أني فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل [ ص: 359 ] وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب . فأممت منزلي الذي كنت به ، وظننت أنهم سيفقدونني ، فيرجعون إلي . فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فادلج ، فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان نائم ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه ، حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما كلمني كلمة ، وما سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك . وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول . فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي . إنما كان يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا . فانطلقت أنا وأم مسطح ، وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي ، وقد فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، [ ص: 360 ] فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا ، قالت : أي هنتاه ، ألم تسمعي ما قال ، قالت : قلت لها : وما قال ؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك . قالت : فازددت مرضا على مرضي . قالت : فلما رجعت إلى بيتي ، ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : كيف تيكم ، فقلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ، ما يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية ; هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها . قالت : فقلت : سبحان الله ، ولقد تحدث الناس بهذا ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، حتى أصبحت أبكي ; فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد ، حين استلبث الوحي ، يستأمرهما في فراق أهله . فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله . وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود ; فقال : يا رسول الله ، أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله ; لم يضيق الله عليك والنساء سواها ، كثير واسأل الجارية تصدقك . قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : يا بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق ، إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين ; من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ؟ فوالله ما علمت من أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي . [ ص: 361 ] فقام سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ; أنا أعذركم منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان فينا قبل ذلك صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، والله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم لسعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت والله لنقتلنه ; فإنك منافق ، تجادل عن المنافقين . فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا ، وسكت . قالت : فمكثت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي ، وقد مكثت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع ، يظنان أن البكاء فالق كبدي . قالت : فبينما هما جالسان عندي ، وأنا أبكي ، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . قالت : فبينما نحن كذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم . ثم جلس . قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها . وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني . قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس . ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة . فقلت لأبي : أجب رسول الله فيما قال . قال : فوالله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : فقلت لأمي : أجيبي رسول الله . قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 362 ] قلت ، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به . فلئن قلت لكم : إني بريئة ، والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني ; ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدقونني . والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } . قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي . قالت : وأنا حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله سيبرئني ببراءتي . ولكن ، والله ما كنت أظن أنه ينزل في قرآن يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بآية تتلى ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في النوم يبرئني الله بها . قالت : فوالله ما رام رسول الله مكانه ، وما خرج أحد من أهل البيت ، حتى أنزل الله عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق ، وهو في يوم شات من ثقل القول عليه . فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها : أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك . قالت أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، وأنزل الله : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } العشر الآيات كلها . فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة . فأنزل الله عز وجل : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } . قال أبو بكر : بلى والله ; إني أحب أن يغفر الله لي ; فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا . [ ص: 363 ] قالت عائشة وكان رسول الله يسأل زينب بنت جحش عن أمري ; قال : يا زينب ، ماذا علمت ؟ وماذا رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله ; أحمي سمعي وبصري ، وما علمت إلا خيرا } . قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية