الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل في جمادى الآخرة سنة ثمان غزوة ذات السلاسل

            ذكرها الحافظ البيهقي هاهنا قبل غزوة الفتح ، فساق من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير قالا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي ، وعبد الله ومن يليهم من قضاعة - قال عروة بن الزبير : بنو بلي أخوال العاص بن وائل - فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه ، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الأولين ، فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين ، رضي الله عنهم أجمعين ، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح . قال موسى بن عقبة : فلما قدموا على عمرو قال : أنا أميركم ، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم . فقال المهاجرون : بل أنت أمير أصحابك ، وأبو عبيدة أمير المهاجرين . فقال عمرو : إنما أنتم مدد أمددته . فلما رأى ذلك أبو عبيدة ، وكان رجلا حسن الخلق لين الشيمة ، قال : تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا وإنك إن عصيتني لأطيعنك . فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص .

            وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإسلام ، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بني بلي ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يستألفهم بذلك ، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له : السلاسل . وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل . قال : فلما كان عليه وخاف ، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين ، فيهم أبو بكر وعمر ، وقال لأبي عبيدة حين وجهه : " لا تختلفا " . فخرج أبو عبيدة ، حتى إذا قدم عليه قال له عمرو : إنما جئت مددا إلي . فقال له أبو عبيدة : لا ، ولكني على ما أنا عليه ، وأنت على ما أنت عليه . وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا ، هينا عليه أمر الدنيا ، فقال له عمرو : أنت مددي . فقال له أبو عبيدة : يا عمرو ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لي : " لا تختلفا " . وإنك إن عصيتني أطعتك . فقال له عمرو : فإني أمير عليك ، وإنما أنت مدد لي قال : فدونك . فصلى عمرو بن العاص بالناس .

            وقال الواقدي : حدثني ربيعة بن عثمان ، عن يزيد بن رومان ، أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص ، فصاروا خمسمائة ، فساروا الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها ، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع ، فلما سمعوا بك تفرقوا ، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين ، ولقي في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير ، فاقتتلوا ساعة ، وتراموا بالنبل ، ورمي يومئذ عامر بن ربيعة وأصيب ذراعه ، وحمل المسلمون عليهم فهربوا ، وأعجزوا هربا في البلاد وتفرقوا ، ودوخ عمرو ما هناك ، وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه ، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم ، فكانوا ينحرون ويذبحون ، ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك ، ولم تكن غنائم تقسم .

            تيمم عمرو من الجنابة وصلاته بأصحابه وقال أبو داود : ثنا ابن المثنى ، ثنا وهب بن جرير ، ثنا أبي ، سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص ، قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك . قال : فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " قال : فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله يقول : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ( النساء : 29 ) فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .

            حدثنا محمد بن سلمة ، ثنا ابن وهب ، ثنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، أن عمرو بن العاص كان على سرية . فذكر الحديث بنحوه ، قال : فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم صلى بهم . فذكر نحوه ، ولم يذكر التيمم . قال أبو داود : وروى هذه القصة عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، وقال فيه : فتيمم .

            وقال الواقدي : حدثني أفلح بن سعيد ، عن ابن عبد الرحمن بن رقيش ، عن أبي بكر بن حزم قال : كان عمرو بن العاص حين قفلوا ، احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد ، فقال لأصحابه : ما ترون ؟ قد والله احتلمت ، فإن اغتسلت مت . فدعا بماء فتوضأ ، وغسل فرجه وتيمم ، ثم قام فصلى بهم ، فكان أول من بعث عوف بن مالك بريدا ، قال عوف : فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلي في بيته ، فسلمت عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عوف بن مالك ؟ " فقلت : عوف بن مالك يا رسول الله . قال : " صاحب الجزور ؟ " قلت : نعم . ولم يزد على هذا بعد ذلك شيئا ، ثم قال : " أخبرني " . فأخبرته بما كان من مسيرنا ، وما كان من أبي عبيدة وعمرو ، ومطاوعة أبي عبيدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح " . قال : ثم أخبرته أن عمرا صلى بالناس وهو جنب ومعه ماء ، لم يزد على أن غسل فرجه وتوضأ ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته ، فأخبره فقال : والذي بعثك بالحق ، إني لو اغتسلت لمت ، ولم أجد بردا قط مثله ، وقد قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أنه قال شيئا .

            ما كان من عوف بن مالك والجزور وقال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنت في الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص ، وهي غزوة ذات السلاسل ، فصحبت أبا بكر وعمر ، فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها ، وهم لا يقدرون على أن يعضوها ، وكنت امرأ جازرا ، فقلت لهم : تعطوني منها عشيرا على أن أقسمها بينكم ؟ قالوا : نعم . فأخذت الشفرة ، فجزأتها مكاني ، وأخذت منها جزءا فحملته إلى أصحابي ، فاطبخناه وأكلناه ، فقال أبو بكر وعمر : أنى لك هذا اللحم يا عوف ؟ فأخبرتهما فقالا : لا والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا . ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه ، فلما أن قفل الناس من ذلك السفر ، كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئته وهو يصلي في بيته فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته . فقال : " أعوف بن مالك ؟ " فقلت : نعم ، بأبي أنت وأمي . فقال : " صاحب الجزور ؟ " ولم يزدني على ذلك شيئا هكذا رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عوف بن مالك ، وهو منقطع بل معضل .

            قال الحافظ البيهقي : وقد رواه ابن لهيعة وسعيد بن أبي أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ربيعة بن لقيط ، عن مالك بن هدم ، أظنه عن عوف بن مالك ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فعرضته على عمر فسألني عنه ، فأخبرته فقال : قد تعجلت أجرك . ولم يأكله . ثم حكى عن أبي عبيدة مثله ، ولم يذكر فيه أبا بكر ، وتمامه كنحو ما تقدم .

            سؤال عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليه وقال الحافظ البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، ثنا علي بن عاصم ، ثنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، سمعت عمرو بن العاص يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده . قال : فأتيته حتى قعدت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، من أحب الناس إليك ؟ قال : " عائشة " . قلت : إني لست أسألك عن أهلك . قال : " فأبوها " قلت : ثم من ؟ قال : " عمر " قلت : ثم من ؟ حتى عدد رهطا ، قال : قلت في نفسي : لا أعود أسأل عن هذا .

            وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " من طريق خالد بن مهران الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، واسمه عبد الرحمن بن مل ، حدثني عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " قلت : فمن الرجال ؟ قال : " أبوها " قلت : ثم من ؟ قال : " ثم عمر بن الخطاب " فعد رجالا . وهذا لفظ البخاري . وفي رواية : قال عمرو : فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم . [ وصية أبي بكر رافع بن رافع ]

            قال : وكان من الحديث في هذه الغزاة ، أن رافع بن أبي رافع الطائي ، وهو رافع بن عميرة ، كان يحدث فيما بلغني عن نفسه ، قال : كنت امرأ نصرانيا ، وسميت سرجس ، فكنت أدل الناس وأهداهم بهذا الرمل ، كنت أدفن الماء في بيض النعام بنواحي الرمل في الجاهلية ، ثم أغير على إبل الناس ، فإذا أدخلتها الرمل غلبت عليها ، فلم يستطع أحد أن يطلبني فيه ، حتى أمر بذلك الماء الذي خبأت في بيض النعام فأستخرجه ، فأشرب منه ؛ فلما أسلمت خرجت في تلك الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل ؛ قال : فقلت : والله لأختارن لنفسي صاحبا ؛ قال : فصحبت أبا بكر ، قال : فكنت معه في رحله ، قال : وكانت عليه عباءة له فدكية ، فكان إذا نزلنا بسطها وإذا ركبنا لبسها ، ثم شكها عليه بخلال له ، قال : وذلك الذي له يقول أهل نجد حين ارتدوا كفارا : نحن نبايع ذا العباءة قال : فلما دنونا من المدينة قافلين ، قال : قلت : يا أبا بكر ، إنما صحبتك لينفعني الله بك ، فانصحني وعلمني ، قال : لو لم تسألني ذلك لفعلت ، قال : آمرك أن توحد الله ولا تشرك به شيئا ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج هذا البيت ، وتغتسل من الجنابة ، ولا تتأمر على رجل من المسلمين أبدا . قال : قلت : يا أبا بكر ، أما أنا والله فإني أرجو أن لا أشرك بالله أحدا أبدا ؛ وأما الصلاة فلن أتركها أبدا إن شاء الله ؛ وأما الزكاة فإن يك لي مال أؤدها إن شاء الله ؛ وأما رمضان فلن أتركه أبدا إن شاء الله ؛ وأما الحج فإن أستطع أحج إن شاء الله تعالى ؛ وأما الجنابة فسأغتسل منها إن شاء الله ؛ وأما الإمارة فإني رأيت الناس يا أبا بكر لا يشرفون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الناس إلا بها ، فلم تنهاني عنها ؟ قال : إنك إنما استجهدتني لأجهد لك ، وسأخبرك عن ذلك : إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ، فجاهد عليه حتى دخل الناس فيه طوعا وكرها ، فلما دخلوا فيه كانوا عواذ الله وجيرانه ، وفي ذمته ، فإياك لا تخفر الله في جيرانه ، فيتبعك الله خفرته ، فإن أحدكم يخفر في جاره ؛ فيظل ناتئا عضله ، غضبا لجاره أن أصيبت له شاة أو بعير ، فالله أشد غضبا لجاره . قال : ففارقته على ذلك .

            قال : فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر أبو بكر على الناس ، قال : قدمت عليه ، فقلت له : يا أبا بكر ، ألم تك نهيتني عن أن أتأمر على رجلين من المسلمين ؟ قال : بلى ، وأنا الآن أنهاك عن ذلك ؛ قال : فقلت له : فما حملك على أن تلي أمر الناس ؟ قال : لا أجد من ذلك بدا ، خشيت على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرقة فائدة قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد احتج بهذه القصة -عمرو جنابته- من قال : إن التيمم لا يرفع الحدث ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه جنبا بعد تيممه ، وأجاب من نازعهم في ذلك بثلاثة أجوبة :

            أحدها : أن الصحابة لما شكوه قالوا : صلى بنا الصبح وهو جنب ، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وقال : "صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " استفهاما واستعلاما ، فلما أخبره بعذره وأنه تيمم للحاجة أقره على ذلك .

            الثاني : أن الرواية اختلفت عنه ، فروي عنه فيها أنه غسل مغابنه ، وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم صلى بهم ، ولم يذكر التيمم ، وكأن هذه الرواية أقوى من رواية التيمم ، قال عبد الحق وقد ذكرها وذكر رواية التيمم قبلها ، ثم قال : وهذا أوصل من الأول ؛ لأنه عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي القيس مولى عمرو عن عمرو . والأولى التي فيها التيمم ، من رواية عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص ، لم يذكر بينهما أبا قيس .

            الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يستعلم فقه عمرو في تركه الاغتسال ، فقال له : "صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " فلما أخبره أنه تيمم للحاجة علم فقهه ، فلم ينكر عليه ، ويدل عليه أن ما فعله عمرو من التيمم - والله أعلم - خشية الهلاك بالبرد ، كما أخبر به ، والصلاة بالتيمم في هذه الحال جائزة غير منكر على فاعلها ، فعلم أنه أراد استعلام فقهه وعلمه . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية