الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه يرصد عيرا لقريش عند محمد بن عمر ، وابن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله ومن معه لحي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وتعرف بسرية الخبط وسرية سيف البحر . قال جمهور أئمة المغازي كانت في رجب سنة ثمان . سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر

            قال الإمام مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل ، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة . قال جابر : وأنا فيهم ، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأتوا أبا عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع كله ، فكان مزودي تمر ، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة . قال : فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت . قال : ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظرب . قال : فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ، ثم أمر براحلة فرحلت ، ثم مرت تحتهما فلم تصبهما . أخرجاه في " الصحيحين " من حديث مالك ، بنحوه .

            وهو في " الصحيحين " أيضا من طريق سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب ، وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح ، نرصد عيرا لقريش ، فأصابنا جوع شديد ، حتى أكلنا الخبط ، فسمي ذلك الجيش جيش الخبط . قال : ونحر رجل ثلاث جزائر ، ثم نحر ثلاث جزائر ، ثم ثلاثا ، فنهاه أبو عبيدة . قال : وألقى البحر دابة يقال لها : العنبر . فأكلنا منها نصف شهر وادهنا ، حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت . ثم ذكر قصة الضلع . فقوله في الحديث : نرصد عيرا لقريش . دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية . والله أعلم . والرجل الذي نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة ، رضي الله عنهما .

            وقال الحافظ البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو بكر بن إسحاق ، ثنا إسماعيل بن قتيبة ، ثنا يحيى بن يحيى ، ثنا أبو خيثمة ، وهو زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر علينا أبا عبيدة ، نتلقى عيرا لقريش ، وزودنا جرابا من تمر ، لم يجد لنا غيره ، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة . قال : فقلت : كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال : كنا نمصها كما يمص الصبي ، ثم نشرب عليها الماء ، فتكفينا يومنا إلى الليل ، وكنا نضرب بعصينا الخبط ، ثم نبله بالماء فنأكله . قال : فانطلقنا إلى ساحل البحر ، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا به دابة تدعى العنبر ، فقال أبو عبيدة : ميتة . ثم قال : لا ، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم ، فكلوا . قال : فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ، ولقد كنا نغرف من وقب عينه بالقلال الدهن ، ونقتطع منه الفدر كالثور ، أو كقدر الثور ، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا ، فأقعدهم في عينه ، وأخذ ضلعا من أضلاعه ، فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها ، فمر تحتها ، وتزودنا من لحمها وشائق ، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : " هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا ؟ " قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه . ورواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى وأحمد بن يونس ، وأبو داود ، عن النفيلي ، ثلاثتهم عن أبي خيثمة زهير بن معاوية الجعفي الكوفي ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، به .

            قلت -ابن كثير رحمه الله تعالى-: ومقتضى أكثر هذه السياقات ، أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية. وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات : فقال قيس بن سعد بن عبادة : من يشتري مني تمرا بجزور أنحرها ها هنا وأوفيه الثمن بالمدينة ؟ فجعل عمر بن الخطاب يقول : واعجباه لهذا الغلام لا مال له يدين في مال غيره . فوجد قيس رجلا من جهينة فقال قيس : بعني جزورا وأوفيك ثمنه من تمر بالمدينة . قال الجهني : والله ما أعرفك فمن أنت ؟ قال : أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم . قال الجهني : ما أعرفني : بنسبك إن بيني وبين سعد خلة سيد أهل يثرب ، فابتاع منه خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر ، واشترط عليه البدوي تمر ذخرة من تمر آل دليم ، فقال قيس : نعم . قال الجهني : أشهد لي . فأشهد له نفرا من الأنصار ومعهم نفر من المهاجرين . فقال عمر بن الخطاب : لا أشهد ، هذا يدان ولا مال له إنما المال لأبيه . فقال الجهني : والله ما كان سعد ليخني بابنه في شقة من تمر وأرى وجها حسنا وفعلا شريفا . فأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة كل يوم جزورا . فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره وقال : تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك . وفي حديث جابر عن الشيخين : نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه .

            وروى محمد بن عمر عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه أن أبا عبيدة قال لقيس : عزمت عليك ألا تنحر ، أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك ؟ فقال قيس : يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت وهو يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة لا يقضي عني شقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله ؟ فكاد أبو عبيدة يلين له وجعل عمر يقول اعزم عليه فعزم عليه وأبى عليه أن ينحر فبقيت جزوران فقدم بهما قيس المدينة يتعاقبون عليهما . وبلغ سعد بن عبادة ما كان أصاب الناس من المجاعة فقال : «إن يكن قيس كما أعرف فسوف ينحر القوم» انتهى . وفي الصحيح عن أبي صالح ذكوان السمان إن قيس بن سعد بن عبادة قال لأبيه . وفي مسند الحميدي عن أبي صالح عن قيس قلت لأبي : كنت في الجيش فجاعوا . قال : أنحرت ؟ قال : نحرت . قال ثم جاعوا قال : أنحرت ؟ قال : نهيت .

            وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات قال : من نهاك ؟ قال : أبو عبيدة بن الجراح . قال : ولم ؟ قال : زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك . قال : لك أربعة حوائط أدنى حائط منها تجد منه خمسين وسقا . وكتب بذلك كتابا وأشهد أبا عبيدة وغيره . وقدم الجهني مع قيس فأوفاه أوسقه وحمله وكساه .

            وعند ابن خزيمة عن جابر قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل قيس فقال : «إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت» .

            انتهى . وجاء سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من يعذرني من ابن الخطاب يبخل علي ابني . بعض الفوائد المستفادة من هذه الغزوة في سبل الهدى والرشاد قال: قال في الهدي: قول من قال إنها كانت في رجب وهم غير محفوظ ، إذ لم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية ، وقد عير المشركون المسلمين بقتالهم في أول رجب في قصة العلاء بن الحضرمي ، وقالوا : استحل محمد الشهر الحرام وأنزل الله تعالى في ذلك : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله [البقرة 217] ولم يثبت نسخ هذا بنص يجب المصير إليه ولا أجمعت الأمة على نسخه . قال [البرهان] في النور : وهو كلام حسن مليح لكنه على ما اختاره من عدم نسخ القتال في الشهر الحرام وسلفه عطاء وأهل الظاهر وشيخه أبي العباس بن تيمية وهو خلاف ما عليه المعظم . وقوله في قصة العلاء بن الحضرمي صوابه عمرو بن الحضرمي أخو العلاء والعلاء ليس صاحب هذه السرية بل صاحبها وأميرها عبد الله بن جحش .

            الثالث : قال في الفتح : لا يغاير ما في الصحيح أن هذه السرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم لترصد عيرا لقريش ، وما ذكره ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهم لحي من جهينة وأن ذلك كان في شهر رجب لإمكان الجمع بين كونهم يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيا من جهينة ، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم من طريق عبيد الله بن مقسم عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا إلى أرض جهينة ، فذكر القصة . لكن تلقي عير قريش ما يتصور أن يكون في الوقت الذي ذكره ابن سعد في رجب سنة ثمان لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة بل يقتضي ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست ، أو قبلها قبل الهدنة يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة . ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا بل أنهم أقاموا نصف شهر وأكثر في مكان واحد والله تعالى أعلم .

            الرابع : وقع في رواية أبي حمزة الخولاني عن جابر عن ابن أبي عاصم في كتاب الأطعمة أن أمير هذه السرية قيس بن سعد بن عبادة . قال الحافظ : والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة بن الجراح . وكان أحد الرواة ظن من صنيع قيس بن سعد في تلك الغزاة ما صنع من نحر الإبل التي نحرها أنه كان أمير السرية وليس كذلك .

            الخامس : ظاهر قول جابر : «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا فخرجنا وكنا ببعض الطريق فني .

            الزاد إلخ» . أنه كان لهم زاد بطريق العموم وزاد بطريق الخصوص . فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المساواة بينهم ففعل فكان جميعه مزودا واحدا .

            ووقع عند مسلم في رواية الزبير عن جابر : «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره . فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة» .

            وظاهره مخالف لهذه الرواية . ويمكن الجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب . فلما تعدد وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه صار قدر جراب ، ويكون كل من الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر . وأما تفرقة ذلك تمرة تمرة ، فكان في ثاني الحال . وقد روى البخاري في الجهاد من طريق وهب بن كيسان عن جابر : «خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا حتى كان الرجل منا يأكل [كل يوم] تمرة» . وأما قول عياض : «يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور» فمردود لأن حديث جابر الذي صدر به البخاري صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم كان مزود تمر . ورواية أبي الزبير صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم زودهم جرابا من تمر فيصح أن التمر كان معهم من غير الجراب . وأما قول غيره يحتمل أن يكون تفرقته عليهم تمرة تمرة كان من الجراب النبوي صلى الله عليه وسلم قصدا للبركة ، وكان يفرق عليهم من الأزواد التي اجتمعت أكثر من ذلك فبعيد من ظاهر السياق ، بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر . فقلت أزوادنا حتى كان يصيب الرجل منا التمرة .

            السادس : في رواية وهب بن كيسان عن جابر : «فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة» .

            وفي رواية عمرو بن دينار : «فأكلنا منه نصف شهر» . وفي رواية أبي الزبير : «فأقمنا عليها شهرا» . ويجمع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال : ثماني عشرة ، ضبط ما لم يضبط غيره أو أن من قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام ، ومن قال شهرا جبر الكسر وضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها . ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة . قال ابن التين : إحدى الروايتين وهم . ووقع في رواية الحاكم : اثنا عشر يوما ، وهي شاذة وأشذ منها رواية الخولاني : أقمنا قبلها ثلاثا . ولعل الجمع الذي ذكرته أولى .

            السابع : لا تخالف رواية أبي حمزة الخولاني رواية أبي الزبير في لحم الحوت لأن رواية أبي حمزة تحمل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر ، أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه ، وكان الذي أحضروه معهم لم يروح فأكل منه صلى الله عليه وسلم .

            الثامن : وقع في آخر صحيح مسلم من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم . فذكر الحديث ، وفيه فرأينا جابر بن عبد الله في مسجده . الحديث . وفيه سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط . الحديث . وفيه سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكان قوت كل أحد منا في كل يوم تمرة . الحديث . وفي آخره : شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «عسى الله أن يطعمكم» . فأتينا سيف البحر ، فزجر البحر زجرة فألقى دابة ، فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا . قال جابر : فدخلت أنا وفلان حتى عد خمسة في فجاج عينها ما يرانا أحد ، وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقومناه ودعونا أعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطئ رأسه . قال الحافظ رحمه الله تعالى : وظاهر سياقه أن ذلك وقع في غزوة لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن يمكن حمل قوله : فأتينا سيف البحر على أنه معطوف على شيء محذوف تقديره : فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سفر فأتينا إلخ ، فتتحد مع القصة التي في صحيح البخاري . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الفوائد المستفادة من قصة هذه الغزوة: جواز أكل ورق الشجر عند المخمصة وكذلك عشب الأرض .

            وفيها : جواز نهي الإمام وأمير الجيش للغزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهرهم عند لقاء عدوهم ، ويجب عليهم الطاعة إذا نهاهم .

            وفيها : جواز أكل ميتة البحر وأنها لم تدخل في قوله عز وجل : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) [ المائدة : 3 ] ، وقد قال تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ) [ المائدة : 5 ] ، وقد صح عن أبي بكر الصديق ، وعبد الله بن عباس ، وجماعة من الصحابة ، أن صيد البحر ما صيد منه وطعامه ما مات فيه ، وفي السنن عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " ، حديث حسن . وهذا الموقوف في حكم المرفوع ؛ لأن قول الصحابي : أحل لنا كذا ، وحرم علينا ، ينصرف إلى إحلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحريمه .

            فإن قيل فالصحابة في هذه الواقعة كانوا مضطرين ، ولهذا لما هموا بأكلها قالوا : إنها ميتة ، وقالوا : نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن مضطرون ، فأكلوا ، وهذا دليل على أنهم لو كانوا مستغنين عنها لما أكلوا منها .

            قيل : لا ريب أنهم كانوا مضطرين ولكن هيأ الله لهم من الرزق أطيبه وأحله ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بعد أن قدموا : " هل بقي معكم من لحمه شيء ؟ " قالوا : نعم ، فأكل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " إنما هو رزق ساقه الله لكم " ولو كان هذا رزق مضطر لم يأكل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال الاختيار ، ثم لو كان أكلهم منها للضرورة ، فكيف ساغ لهم أن يدهنوا من ودكها ، وينجسوا به ثيابهم وأبدانهم ، وأيضا فكثير من الفقهاء لا يجوز الشبع من الميتة ، إنما يجوزون منها سد الرمق ، والسرية أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم ، وسمنوا ، وتزودوا منها .

            فإن قيل : إنما يتم لكم الاستدلال بهذه القصة إذا كانت تلك الدابة قد ماتت في البحر ، ثم ألقاها ميتة ، ومن المعلوم أنه كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون البحر قد جزر عنها وهي حية فماتت بمفارقة الماء ، وذلك ذكاتها وذكاة حيوان البحر ، ولا سبيل إلى دفع هذا الاحتمال ، كيف وفي بعض طرق الحديث : "فجزر البحر عن حوت كالظرب " قيل : هذا الاحتمال مع بعده جدا فإنه يكاد يكون خرقا للعادة ، فإن مثل هذه الدابة إذا كانت حية إنما تكون في لجة البحر وثبجه دون ساحله وما رق منه ودنا من البر ، وأيضا فإنه لا يكفي ذلك في الحل ؛ لأنه إذا شك في السبب الذي مات به الحيوان ، هل هو سبب مبيح له أو غير مبيح ؟ لم يحل الحيوان ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيد يرمى بالسهم ، ثم يوجد في الماء : وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك " فلو كان الحيوان البحري حراما إذا مات في البحر لم يبح . وهذا مما لا يعلم فيه خلاف بين الأئمة .

            وأيضا فلو لم تكن هذه النصوص مع المبيحين ، لكان القياس الصحيح معهم ، فإن الميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها ، والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات ، كانت سبب الحل ، وإلا فالموت لا يقتضي التحريم ، فإنه حاصل بالذكاة كما يحصل بغيرها ، وإذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذكاة لم يحرم بالموت ولم يشترط لحله ذكاة كالجراد ، ولهذا لا ينجس بالموت ما لا نفس له سائلة كالذباب ، والنحلة ، ونحوهما ، والسمك ، من هذا الضرب ، فإنه لو كان له دم وفضلات تحتقن بموته لم يحل لموته بغير ذكاة ، ولم يكن فرق بين موته في الماء ، وموته خارجه ، إذ من المعلوم أن موته في البر لا يذهب تلك الفضلات التي تحرمه عند المحرمين إذا مات في البحر ، ولو لم يكن في المسألة نصوص لكان هذا القياس كافيا ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية