الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فيقال: هذا الوجود المشهود، إما أن يكون موجودا بنفسه، وإما أن لا يكون. وإذا كان موجودا بنفسه، فإما أن يكون قديما [ ص: 483 ] -وهو القسم الذي تقدم بيان تناقض أصحابه- وإما أن يكون محدثا بنفسه، فيقال: هذا القول أظهر فسادا وتناقضا؛ فإنه من المعلوم بالفطرة البديهية، أن المحدث قبل أن لم يكن، لا يتصور أن يحدث عن غير محدث، ولا أن يحدث نفسه. فلا يكون الشيء صانعا لنفسه، لا مصنوعا لنفسه، ولا يكون أيضا علة غائية لنفسه، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، قال تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [الطور: 35] قالوا: من غير خالق لهم، قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع. وقد تكلمنا عن هذه الآية في غير هذا الموضع، بين سبحانه باستفهام الإنكار الذي يتضمن أن الأمر المنكر من العلوم المستقرة، الملازمة للمخاطب، التي ينكر على من جحدها؛ لأنه سفسط بجحد العلوم البديهية الفطرية [ ص: 484 ] الضرورية؛ فإنه من المعلوم أن ما حدث لا يكون من غير محدث أحدثه، ولا يكون هو حدث بنفسه، فقال: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [الطور: 35] وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين وغيره من المحالات.

وإن كانت إحالته في العقل، من أظهر العلوم الضروريات؛ فإن كونه فاعلا لنفسه، يقتضي أن يكون وجوده قبلها، وكونها مفعولة، يقتضي أن يكون وجوده بعد نفسه، فيجب أن تكون نفسه موجودة معدومة في آن واحد.

والمقصود هنا تباين تناقض حججهم، وأن الذي يقولونه فيه من المحذور أعظم مما فروا منه.

فيقال: إذا قدر أنه حدث بنفسه، بلا محدث، بل عن العدم المحض، فمعلوم أن هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة، من أبعد الأشياء، عن الأمور الموجودة المحسوسة وعن القياس العقلي، فمن جوز أن يكون هذا الوجود صدر عن عدم محض، فصدوره عن علة موجبة لا تستلزم وجود المعلول، أقرب إلى العقل وأبعد عن المحذور، وهو الذي فروا منه، لأن أكثر ما في هذا، أنه تكون العلة التامة قد تخلف عنها معلولها، أو وجد المعلول عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن صدوره لا عن شيء، أعظم امتناعا وفسادا من صدوره عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن العلة التامة بلا معلول، أقل فسادا وامتناعا، من وجود المحدث لا من علة أصلا؛ فإن المعلول إما [ ص: 485 ] محدث، وإما قديم، ومعلوم بالعقل أن حاجة المعلول المحدث إلى العلة، أظهر من حاجة المعلول القديم، ووجود المعلول بلا علة، أبعد في العقل من وجود العلة بلا معلول، فإذا جوزتم صدور المحدث بلا علة ولا محدث، كان تجويز وجود العلة التامة، مع تأخير معلولها أقرب في العقل وأبعد عن المحال.

وكذلك أيضا إذا جوزتم صدوره عن العدم، فصدوره عن فاعل مستكمل بفعله، أو فاعل يفعل لا لغرض، أقرب في العقل وأبعد عن المحال مما جوزتموه؛ فإن هذا غايته أن يكون أحدثه فاعل ناقص أو عابث، وبكل حال فهذا أقل امتناعا من أن يكون حدث لا عن شيء.

وبالجملة فافتقار المحدث إلى المحدث، من أبده العلوم وأوضح المعارف، وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء، وأي قول قيل، كان أقرب إلى العقل وأبعد عن المحال من هذا، فإذا قرر هذا القول، ظهر أن المحال الذي فيه، أعظم من المحال الذي يلزم غيره، ولهذا لم نكثر تقرير هذا القول، وإنما تكلمنا على ما قال به قائلون -وهم الدهرية القائلون بقدم العالم، إما واجبا بنفسه، وإما واجبا بعلته- فهؤلاء إذا ظهر تناقض قولهم، كان تناقض ذلك القول أظهر. وقد ذكرنا بعض تناقضهم.

ويقال لهم أيضا: هذه الكمالات الحاصلة للفلك، بإحداث ما يحدثه من الحركات، إن كانت مقدورة له في الأزل فلم أخرها؟ وإن كانت غير مقدورة له، فقد أثبتموه عاجزا عن غير [ ص: 486 ] ما فعل من الإحداث! فإذا أقررتم بخلق الفلك، لم يلزمكم في إثباته أكثر من هذا -وهو أن يكون مستكملا بما يحدثه من الأفعال، وأن يكون وجود تلك الأفعال في الأزل ممكنا- وغاية ما يلتزمونه من قيام أفعال حادثة بذاته، أو من كونه جسما، أو غير ذلك: فإن هذا كله لازم لكم، إذا قلتم بأن الفلك قديم واجب الوجود. فإذا كان كل محذور يلزمكم على تقدير إثبات الصانع، يلزمكم أيضا على تقدير نفي الصانع، كان القول بنفيه باطلا قطعا، وكانت هذه الحجة فاسدة؛ وهذا هو المقصود هنا.

وأما بيان أن هذه الحوادث الموجودة في العالم، يمتنع أن يكون الفلك مستقلا بها، فذاك له مقام آخر، إذ الغرض هنا بيان تناقضهم، مع أن ذلك ظاهر بين، والعقلاء المعروفون، متفقون على أن الحوادث التي تحدث، لا يستقل بها الفلك، ويمتنع أن يكون في المخلوقات ما يستقل بإحداث محدث منفصل عنه، فهذا له مقام آخر، وهو دليل مستقل عظيم القدر على ثبوت الصانع تعالى.

وهكذا الإلزام على «التقدير الثاني» وهو أن يقال: هذه الحركات لغير غرض. فيقال: يلزمكم بموجب كلامكم؛ أن يكون الموجود القديم الواجب الوجود، يفعل أفعالا دائمة مستمرة لغير غرض، وقد قلتم: إنه عبث والعبث على الحكيم [ ص: 487 ] محال، فمهما كان جوابكم عن ذلك، في هذا أمكن أن تجيبوا أنفسكم به، إذا كان القديم الواجب الوجود هو صانع الفلك، مع كون المحذور حينئذ أقل عندكم، فلو عدلتم عن القول الأخف إلى القول الأقبح -ولله المثل الأعلى- فنزهتموه إذا كان موجودا قديما صانعا، عن أن يستكمل بفعله، أو يكون عابثا فيه، فجعلتموه معدوما؟! وأي موجود فرض، كان خيرا من المعدوم، فعدلتم عن أن تصفوه بنوع نقص، فوصفتموه بما يجمع كل نقص، ثم وصفتم غيره بصفات الكمال، التي هي وجوب الوجود والقدم، مع وصفكم له بتلك النقائص فاجتماع هذه النقائص مع هذه الكمالات لازم لكم، ولم تستفيدوا إلا كمال التعطيل والجحود بلا حجة أصلا.

التالي السابق


الخدمات العلمية