الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الباب السابع عشر في سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه إلى القرطاء

            [وهي بطون من بني بكر من قيس عيلان] وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضرية ، على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة .

            روى محمد بن عمربن جعفر بن محمود قال : قال محمد بن مسلمة : خرجت لعشر ليال خلون من المحرم فغبت عشرين ليلة إلا ليلة وقدمت المدينة لليلة بقيت من المحرم .

            وروى محمد بن عمر عن شيوخه ، وابن عائذ عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة في ثلاثين رجلا ركبانا ، فيهم عباد بن بشر ، وسلمة بن سلامة بن وقش ، والحارث بن خزيمة إلى بني بكر بن كلاب ، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار ، وأن يشن الغارة عليهم حتى إذا كان بالشربة لقي ظعنا فأرسل رجلا من أصحابه يسأل : من هم ؟ فذهب الرجل ثم رجع إليه ، فقال : قوم من محارب . فنزلوا قريبا منه وحلوا وروحوا ماشيتهم فأمهلهم حتى إذا عطنوا أغار عليهم ، فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم ، فلم يطلب من هرب واستاق نعما وشاء ولم يتعرض للظعن . ثم انطلق حتى إذا كان بموضع يطلعه على بني بكر بعث عائذ بن بسر إليهم ، فأوفى على الحاضر فأقام . وخرج محمد في أصحابه فشن عليهم الغارة فقتل منهم عشرة واستاقوا النعم والشاء ، ثم انحدر إلى المدينة فما أصبح إلا بضرية مسيرة ليلة أو ليلتين ، ثم حدر بالنعم وخاف الطلب فطرد الشاء أشد الطرد ، فكانت تجري معهم كأنها الخيل حتى بلغ العداسة فأبطأ عليهم الشاء بالربذة فخلفه مع نفر من أصحابه وطرد النعم ، فقدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصل بعده الشاء؛ فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به ثم فض على أصحابه ما بقي ، فعدلوا الجزور بعشر من الغنم . وذكر البلاذري والحاكم أنها كانت في المحرم سنة ست وأن ثمامة بن أثال الحنفي أخذ فيها ، وذكر حديث إسلامه .

            روى الشيخان والبخاري مختصرا ومسلم مطولا وابن إسحاق عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أتدرون من أخذتم ؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي ، أحسنوا إساره» . فربطوه بسارية من سواري المسجد» .

            وروى البيهقي عن ابن إسحاق أن ثمامة كان رسول مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وأراد اغتياله ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى أن يمكنه منه ، فدخل المدينة معتمرا وهو مشرك فدخل المدينة حتى تحير فيها فأخذ ، انتهى . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال :

            «اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه» . وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها وبراح ، فجع .

            لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : «ما عندك يا ثمامة ؟ » فيقول : «عندي خير يا محمد» . وفي لفظ : «أسلم يا ثمامة» . فيقول : «أيها يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن ترد الفداء فسل منه ما شئت» . فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد ، فقال : «ما عندك يا ثمامة ؟ » قال : عندي ما قلت لك . وذكر مثله : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أطلقوا ثمامة» فأطلقوه فانطلق إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ثم دخل المسجد ، فقال : «أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ » فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر . فلما أسلم جاءوه بما كانوا يأتونه به من الطعام وباللقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيرا ، فعجب المسلمون من ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [حين بلغه ذلك] : «مم تعجبون ؟ أمن رجل أكل أول النهار في معى كافر وأكل في آخر النهار في معى مسلم ؟ إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل في معى واحد» .

            قال ابن هشام رحمه الله تعالى : فبلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى؛ فكان أول من دخل مكة يلبي . فأخذته قريش فقالوا : لقد اجترأت علينا . فلما قدموه ليضربوا عنقه؛ قال قائل منهم : دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة لطعامكم فخلوه . فقال الحنفي في ذلك :


            ومنا الذي لبى بمكة معلنا برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم

            وقالوا : أصبوت يا ثمامة ؟ فقال : لا ، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعت خير دين ، دين محمد ووالله لا تصل إليكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا منها شيئا إلى مكة حتى أكلت قريش العلهز .

            فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية قال : «ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ » قال : «بلى» . قال : «فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع» .

            وفي رواية : فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا» . فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل ، وأنزل الله عز وجل : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون
            [المؤمنون 76] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية