الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الباب الثالث والثلاثون في سرية كرز بن جابر أو سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهما إلى العرنيين .

            ذكر الإمام أحمد والشيخان ، وابن جرير ، وابن عوانة ، وأبو يعلى ، والإسماعيلي عن أنس ، والبيهقي عن جابر [وروى البخاري والبيهقي ] عن ابن عمر ، وأبو جعفر الطبري عن جرير بن عبد الله ، والطبراني بإسناده عن صالح ، ومحمد بن عمر عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنهم ، ومحمد بن عمر عن يزيد بن رومان ، وابن إسحاق عن عثمان بن عبد الرحمن رحمهم الله تعالى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب في غزوة بني محارب وبني ثعلبة عبدا يقال له يسار ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له كانت ترعى في ناحية الحمى فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر ، وفي حديث أنس عند البخاري في الجهاد وفي الديات أن ثمانية من عكل وعرينة وعند ابن جرير وأبي عوانة كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل فكان الثامن ليس من القبيلتين فلم ينسب . فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام . وفي رواية : فبايعوه على الإسلام ، وكان بهم سقم . وعند أبي عوانة أنه كان بهم هزال شديد وصفرة شديدة وعظمت بطونهم . فقالوا يا رسول الله آونا وأطعمنا . فكانوا في الصفة .

            فلما صلحوا اجتووا- وفي لفظ- استوخموا المدينة . وعند ابن إسحاق فاستوبأوا وطحلوا . وفي رواية : ووقع بالمدينة الموم وهو البرسام وقالوا : «هذا الوجع قد وقع وإن المدينة وخمة ، وإنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف فابغنا رسلا» . قال : «ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود» . وفي رواية : «نعم لنا» فاخرجوا فيها . وفي رواية : «فأمرهم أن يلحقوا برعاء فيفاء الخبار» وفي رواية :

            «فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود» . وفي رواية : «فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها» . فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا ورجعت إليهم أبدانهم وانطوت بطونهم كفروا بعد إسلامهم عدوا على اللقاح فاستاقوها . فأدركهم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسار ومعه نفر فقاتلهم فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات . وفي رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس عند مسلم : «ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم»
            بصيغة الجمع . ونحوه لابن حبان من رواية يحيى بن سعيد عن أنس ، وانطلقوا بالسرح ، وفي لفظ : الصريخ عند أبي عوانة ، فقتلوا الراعيين وجاء الآخر فقال : قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل . وعند محمد بن عمر : فأقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف على حمار لها فمرت بيسار تحت شجرة ، فلما رأته ومرت به وقد مات رجعت إلى قومها فأخبرتهم الخبر ، فخرجوا حتى جاءوا بيسار إلى قباء ميتا . وعند مسلم : «وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شباب من الأنصار قريب من عشرين فأرسلهم» . وفي رواية : «فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم عشرين فارسا سمي منهم : سلمة بن الأكوع كما عند محمد بن عمر ، وأبو رهم وأبو ذر الغفاريان ، وبريدة بن الحصيب ، ورافع بن مكيث وأخوه جندب ، وبلال بن الحارث ، وعبد الله بن عمرو ابن عوف المزنيان ، وجعال بن سراقة الثعلبي ، وسويد بن صخر الجهني ، وهؤلاء من المهاجرين .

            فيحتمل أن يكون من لم يسمه محمد بن عمر من الأنصار ، فأطلق في رواية الأنصار تغليبا ، أو قيل للجميع أنصار بالمعنى الأعم . واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري . وروى الطبراني وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في آثارهم ، وسنده ضعيف . والمعروف أن جريرا تأخر قدومه عن هذا الوقت بنحو أربعة أعوام . وبعث معهم قائفا يقوف أثرهم ودعا عليهم فقال : «أعم عليهم الطريق واجعله عليهم أضيق من مسك جمل» . فعمى الله عليهم السبل ، فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا . فلما ارتفع النهار جيء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

            وقال محمد بن عمر : فخرج كرز وأصحابه في طلبهم حتى أدركهم الليل فباتوا بالحرة ثم أصبحوا ولا يدرون أين سلكوا فإذا بامرأة تحمل كتف بعير فأخذوها فقالوا : ما هذا ؟ قالت :

            مررت بقوم قد نحروا بعيرا فأعطوني هذه الكتف وهم بتلك المفازة إذا وافيتم عليها رأيتم دخانهم . فساروا حتى أتوهم حين فرغوا من طعامهم . فسألوهم أن يستأسروا فاستأسروا بأجمعهم لم يفلت منهم أحد .

            فربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا المدينة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغابة .

            فخرجوا بهم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أنس كما عند ابن عمر : خرجت أسعى في آثارهم مع الغلمان حتى لقي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغابة بمجتمع السيول ، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها . وفي رواية : فسمرهم . وفي رواية : فسمر أعينهم . قال أنس كما عند مسلم : «إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء» . وفي رواية : «فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا» . وفي رواية : «وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون» . قال أنس : «فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش» . وفي رواية : «ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة حتى ماتوا ولم يحسمهم» قال أبو قلابة : «فهؤلاء قتلوا وسرقوا وكفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله» .

            قال ابن سيرين : كانت هذه القصة العرنيين قبل أن تنزل الحدود . وعند ابن عوانة عن ابن عقيل عن أنس أنه صلب اثنين وسمل اثنين . قال الحافظ : كذا ذكر ستة فقط ، فإن كان محفوظا فعقوبتهم كانت موزعة . فأنزل الله تبارك وتعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم [المائدة 33] . فلم يسمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا ولم يقطع لسانا ولم يزد على قطع اليد والرجل ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا بعد ذلك إلا نهاهم عن المثلة . وكان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة . قال محمد بن عمر وابن سعد : كانت اللقاح خمس عشرة لقحة ذهبوا منها بالحناء .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية