الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            مدة مرضه- صلى الله عليه وسلم- واستخلافه أبا بكر في الصلاة بالناس

            قال الحافظ : اختلف في مدة مرضه ، فالأكثر على أنه ثلاثة عشر يوما .

            وقيل : بزيادة يوم وقيل : بنقصه .

            وقيل : تسعة أيام رواه البلاذري عن علي- رضي الله تعالى عنه- وقيل : عشرة ، وفيه جزم سليمان التيمي ، وكان يخرج إلى الصلاة إلا أنه انقطع ثلاثة أيام .

            قال في العيون : أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصلى بالناس فصلى بهم فيما روينا سبع عشرة صلاة ، ورواه البلاذري عن أبي بكر ابن أبي سبرة-

            وفي لفظ- وقال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» .

            وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن سعد عن عبد الله بن زمعة بن الأسود قال : لما استعز برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا عنده في نفر من المسلمين قال : دعا بلال للصلاة فقال مروا من يصلي بالناس قال : فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقال قم يا عمر فصل بالناس ، قال : فقام فلما كبر عمر سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صوته وكان عمر رجلا مجهرا قال : فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : لا ، لا ، لا يصلي بالناس إلا ابن أبي قحافة يقول ذلك مغضبا فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون ، قال : فبعث إلى أبي بكر بعدما صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس قال : وقال عبد الله بن زمعة قال عمر لي : ويحك ماذا صنعت بي يا ابن زمعة ، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صليت بالناس قال : قلت : والله ما أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة .

            وروى الشيخان وابن سعد والبلاذري والبيهقي وابن إسحاق عن عائشة - رضي الله تعالى عنها- قالت : لما مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرضه الذي مات فيه فثقل ، فحضرت الصلاة فأذن بلال فقال : «أصلى الناس ؟ » قلت : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ! [فقال : ضعوا لي ماء في المخضب قالت : ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال : «أصلى الناس ؟ » فقلت : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله] فقال : «ضعوا إلي ماء في المخضب» قالت : فقلنا فاغتسل فقال : «أصلى الناس ؟ » فقلنا : لا ، هم ينتظرونك ! قالت : والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء الآخرة . فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت : إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء .

            وفي لفظ : لم يستطع أن يصلي بالناس فعاودته مثل مقالتي فقال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- : لقد عاودت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذلك ، وما حملني على معاودته إلا أن يتشاءم الناس بأبي بكر .

            - وفي لفظ- والله ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف الله ذلك عن أبي بكر ، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا ، وأن الناس يتشاءمون به في كل حدث كان ، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر .

            - وفي لفظ- علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به ، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكر إلى غيره فأرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ، وكان أبو بكر رجلا رقيقا ، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه من البكاء فقال : يا عمر صل بالناس قال : أنت أحق بذلك فصلى بهم تلك الأيام ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجد خفة فخرج يهادى بين رجلين ، أحدهما العباس لصلاة الظهر كأني أنظر إلى رجليه يخطان الأرض من الوجع ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر وأمرهما فأجلساه إلى جنب أبي بكر عن يساره فأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- من حيث الآية التي انتهى أبو بكر إليها فقرأ ، فجعل أبو بكر يصلي قائما ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي قاعدا ، وفي رواية : فكان أبو بكر يصلى بصلاة رسول الله والناس يصلون بصلاة أبي بكر .


            وروى ابن إسحاق وابن سعد والبلاذري عن عبيد الله بن أبي مليكة عن عبيد بن عمير ، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من الصلاة يوم صلى قاعدا عن يمين أبي بكر قال : وأقبل عليهم فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد : يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإني والله لا يمسك الناس علي بشيء إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن يا فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا صفية عمة محمد اعملا لها عند الله فإني لم أغن عنكما من الله شيئا ، فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من كلامه قال أبو بكر : يا رسول الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب واليوم يوم بنت خارجة فأتها قال : نعم ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح .

            وروى الإمام أحمد والنسائي والبيهقي والترمذي وصححه عن عائشة - رضي الله تعالى عنها- قالت : صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلف أبي بكر قاعدا في مرضه الذي مات فيه» .

            وروى ابن سعد عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- قال : كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال : «إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم ، أو ترى له ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» .

            وروى الطبراني عن عائشة - رضي الله تعالى عنها- قالت : كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سترا ، وفتح بابا في مرضه ، فنظر إلى الناس يصلون خلف أبي بكر ، فسر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك .

            وروى ابن سعد عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : إن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة بمصحف ، ثم تبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضاحكا ، فبهشنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وفي رواية : «وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين رأوه ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة فأشار إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأرخى الستر ، قال : فتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من يومه» .

            وروي أيضا عنه قال : آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فلما رآه الناس تخشخشوا فأومأ إليهم أن امكثوا مكانكم فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف ثم ألقى السجف وتوفي من آخر ذلك اليوم .

            وقال الواقدي ، عن أبي بكر بن أبي سبرة ، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة . وقال غيره : عشرين صلاة . فالله أعلم . ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الاثنين فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها ، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به ، ولسان حالهم يقول ، كما قال بعضهم :

            وكنت أرى كالموت من بين ساعة فكيف ببين كان موعده الحشر

            والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية .

            قال الشيخ أبو الحسن الأشعري : وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام . قال : وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم ; لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا ، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم سلما " قلت : وهذا من كلام الأشعري ، رحمه الله ، مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق ، رضي الله عنه وأرضاه ، وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في بعض الصلوات ، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة ، لا ينافي ما روي في " الصحيح " أن أبا بكر ائتم به عليه الصلاة والسلام ; لأن ذلك في صلاة أخرى ، كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة ، رحمهم الله عز وجل

            فائدة : استدل مالك والشافعي وجماعة من العلماء ، ومنهم البخاري ، بصلاته ، عليه الصلاة والسلام ، قاعدا ، وأبو بكر مقتديا به قائما ، والناس بأبي بكر ، على نسخ قوله ، عليه الصلاة والسلام ، في الحديث المتفق عليه حين صلى ببعض أصحابه قاعدا ، وقد وقع عن فرس فجحش شقه فصلوا وراءه قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : " كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم ; يقومون على عظمائهم وهم جلوس . وقال إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " قالوا : ثم إنه ، عليه الصلاة والسلام ، أمهم قاعدا ، وهم قيام في مرض الموت ، فدل على نسخ ما تقدم . والله أعلم .

            وقد تنوعت مسالك الناس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة ، موضع ذكرها كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .

            وملخص ذلك أن من الناس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم ، وإنما استمر أبو بكر قائما لأجل التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم . ومن الناس من قال : بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر كما صرح به بعض الرواة كما تقدم ، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبادره بل يقتدي به ، فكأنه عليه الصلاة والسلام ، صار إمام الإمام ، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر ، وهو قائم ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام ، ولأنه يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم الحركات والسكنات والانتقالات . والله أعلم . ومن الناس من قال فرق بين أن يبتدئ الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائما وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال ، وبين أن يبتدئ الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس للحديث المتقدم . والله أعلم . ومن الناس من قال : هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام والجلوس وإن كلا منهما سائغ جائز ; الجلوس لما تقدم والقيام للفعل المتأخر . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية