الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          الآثار الواردة في الجد 1736 - مسألة : روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا معاوية بن صالح ، ومحمد بن عيسى ، وسليمان بن سلم البلخي ، قال محمد بن عيسى - هو ابن الطباع - نا هشيم ، وقال معاوية : حدثني عبد الله بن سوار العنبري نا وهيب - هو ابن خالد - ثم اتفق هشيم ، ووهيب ، كلاهما عن يونس - هو ابن عبيد - عن الحسن عن معقل بن يسار { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الجد السدس } قال معاوية في حديثه : لا ندري مع من ، وقال سليمان البلخي : أنا النضر - هو ابن شميل - أخبرني يونس - يعني ابن أبي إسحاق - عن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون : أن عمر جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن [ ص: 318 ] الجد فنشدهم : من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد شيئا ؟ فقال معقل بن يسار المزني : سمعت { رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بفريضة فيها جد ، فأعطى ثلثا أو سدسا } ، فقال له عمر : ما الفريضة ؟ فقال : لا أدري - وذكر الخبر . .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود نا محمد بن كثير نا همام بن يحيى عن قتادة عن الحسن عن عمران بن الحصين { أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه ؟ قال : السدس ، فلما أدبر دعاه ، فقال : لك سدس آخر ، فلما أدبر دعاه ، فقال : إن السدس الآخر طعمة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : في سماع الحسن من عمران كلام - وهذا يخرج أحسن خروج في ابنتين وجد : فللبنتين الثلثان فريضة مسماة ، وللجد مع الولد عموما السدس فرضا مسمى ، وله السدس الآخر بالتعصيب ; لأنه أولى رجل ذكر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عيسى - هو ابن عيسى الحناط - عن الشعبي : { أن عمر نشد الناس في الجد ؟ فقام رجل فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه الثلث ، قال : من معه ؟ قال : لا أدري ، فقال رجل : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه السدس } ، قال : من معه ؟ قال : لا أدري .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو معشر عن عيسى بن أبي عيسى الحناط أن { عمر بن الخطاب سأل الناس : أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجد شيئا ؟ فقال له رجل : أعطاه سدس ماله ، وقال آخر : أعطاه ثلث ماله ، وقال آخر : أعطاه نصف ماله ، وقال آخر : أعطاه المال كله } - ليس منهم أحد يدري مع من من الورثة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا يعقوب بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أجرؤكم على قسم الجد أجرؤكم على النار } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد القارئ من بني الهون بن خزيمة حليف لبني زهرة ثقة ابن ثقة ما نعلم الآن في الجد أثرا غير هذه وليس فيها إلا سدس ، وثلث ، ونصف ، وكل ، وبها نقول : فللجد مع الولد الذكر السدس ، ومع [ ص: 319 ] البنات الثلث ، ومع البنت النصف - وإذا لم يكن ولد ، ولا أم ، ولا جدة ، ولا زوج ، ولا زوجة ، ولا أب : فله الكل .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في حجة كل قول منها لنعلم الحق فنتبعه بحول الله تعالى ومنه ، فوجدنا من توقف في ميراثه يمكن أن يحتج بمرسل سعيد الذي أوردنا قبل هذا المكان بثلاثة أسطار أو أربعة وهو لا حجة فيه ; لأنه مرسل ، وحاش لله أن يكون رسوله المبعوث بالبيان لا يبين ما أمر ببيانه ثم يتوعد فيها بأنه جريء على النار ، وما لم يبينه علينا فلا يلزمنا أصلا ، وكل ما ألزمنا فقد بينه علينا ، وإذا قلنا ما بينه علينا فما اجترأنا على النار ، بل سلكنا في طريق الجنة .

                                                                                                                                                                                          ولا يخلو الجد من أن يكون له ميراث ، أو لا يكون له ميراث ، فإن كان لا ميراث له ، فمانعه محسن ، وإن كان له ميراث فإعطاؤه حقه فرض ، لا يحل منعه منه ، فالجرأة على أحدهما فرض واجب ، ولا بد من إعطائه أو من منعه ، فمن المحال أن تكون الجرأة في حكمه في الميراث فرضا ، يعصي الله تعالى من تركها ، ثم يتوعد على فعل ما افترض الله تعالى علينا بالنار ، ولكن هذا عيب المرسل ، والله - قطعا - ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط هذا الكلام وهو يتلو كلام ربه تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } .

                                                                                                                                                                                          و { قد تبين الرشد من الغي } .

                                                                                                                                                                                          ولكن سعيد إذ أضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أوهم ، وإنما هو موقوف على علي وعن عمر ، وصحيح عن ابن عمر كما أوردنا قبل ، أو وهم من دون سعيد فأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وإنما المحفوظ من طريق سعيد : أنه عن عمر كما أوردنا قبل أو سمعه سعيد ممن وهم فيه ، لا بد من أحدهما - فسقط هذا القول .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول زيد ، وعبد الرحمن بن غنم - اللذين منعاه الميراث مع الإخوة - فوجدنا حجتهم أن قالوا : وجدنا ميراث الإخوة منصوصا في القرآن ، ولم نجد للجد ميراثا في القرآن ، ووجدنا الجد يدلي بولادته لأبي الميت ، ووجدنا الإخوة يدلون بولادة أبي الميت : فهم أقرب منه . [ ص: 320 ] وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عيسى الحناط عن الشعبي : أن عمر سأل زيدا عن الجد ؟ فضرب له زيد مثلا : شجرة خرجت لها أغصان ، قال الشعبي : فذكر شيئا لا أحفظه ، فجعل له الثلث ، قال سفيان : بلغني أنه قال : يا أمير المؤمنين شجرة أنبتت كالشعب منها غصن ، فالشعب من الغصن غصنان ، فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني - وقد خرج الغصنان جميعا من الغصن الأول ؟ ثم سأل عليا ؟ فضرب له مثلا : واديا سال فيه سيل ، فجعله أخا فيما بينه وبين ستة : فأعطاه السدس .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث بين الجد والإخوة ؟ قال زيد : وكان رأيي يومئذ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد ؟ وعمر يومئذ يرى الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته فتحاورت - أنا وعمر محاورة شديدة ، فضربت له في ذلك مثلا ، فقلت : لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ، ثم تشعب من ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغذوهما ، ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل ؟ قال زيد : فأنا أعيد له ، وأضرب له هذه الأمثال ، وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة ويقول : والله لو أني قضيته لبعضهم لقضيت به للجد كله ، ولكني لعلي لا أخيب سهم أحد ، ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوي حق ، وضرب علي بن أبي طالب ، وابن عباس يومئذ لعمر مثلا ، معناه : لو أن سيلا سال فخلج منه خليج ، ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان ؟ قال أبو محمد : أما قول من قال : ميراث الإخوة منصوص في القرآن وليس ميراث الجد منصوصا في القرآن فباطل ، بل ميراث الجد منصوص في القرآن بقوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } فجعلنا بنين لآدم عليه السلام وجعله أبا لنا - وهو أبعد جد لنا - فالجد أب ، وقال تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس }

                                                                                                                                                                                          { وورثه أبواه فلأمه الثلث } . [ ص: 321 ] وأما كون الجد يدلي بولادته لأبي الميت ، وكون الإخوة يدلون بولادة أبي الميت لهم وللميت ، فهم أقرب ، فليست المواريث بالقرب ولا بالبعد ، فهذا ابن البنت أقرب من ابن العم الذي لا يلتقي مع الميت إلا إلى أزيد من عشرين أبا ، وهو لا يرث مع ابن العم المذكور شيئا ، وهذه العمة أقرب من ابن العم ، ولا ترث معه شيئا ، فكيف والجد أقرب ، لأن ولادته لأبي الميت كانت قبل ولادة أبي الميت لإخوة الميت ، فولد الابن هو بعض الجد ، فالجد أقرب إليه من أخيه - : فبطل هذا القول بيقين - .

                                                                                                                                                                                          وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا التنظير ، وهذا التشبيه ، وهذا التمثيل ، وهذا التعليل وهذا القياس به يحتج أهل القياس في إثبات القياس ، فانظروا واعتبروا ، وحاش لله أن يقول زيد ، أو علي ، أو ابن عباس رضي الله عنهم هذه الفضائح .

                                                                                                                                                                                          وهل رأى قط ذو مسكة عقل أن غصنين تفرعا من غصن من شجرة ، أو جدولين تشعبا من خليج من نهر يوجب حكما في ميراث الجد مع الإخوة بانفراده دونهم ، أو بانفرادهم دونه ، فكيف إن صرنا إلى إيجاب سدس ، أو ربع ، أو ثلث ، أو معادة ، أو مقاسمة ، والله ما قال قط زيد ، ولا علي ، ولا ابن عباس : شيئا من هذه التخاليط ، وهذا آفة المرسل ، ورواية الضعفاء سفيان : أن زيدا ، وعليا ، قالا لعمر ؟ بالله إن هذه لطفرة واسعة ، وعيسى الحناط ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد : هما والله المرءان يرغب عن روايتهما ، ولا يقبلان إلا مع عدل - وحسبنا الله ونعم الوكيل .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول من قال : ليس للجد فرض معلوم ، إنما هو على قدر ما يراه أمير المؤمنين على حسب قلة الإخوة وكثرتهم ، فوجدناه في غاية الفساد ; لأنه إذا لم يكن للجد فرض لازم ، فحرام أخذ مال الإخوة وإعطاؤه إياه ، وقد يكون فيهم الصغير ، والمجنون ، والكاره ، والغائب .

                                                                                                                                                                                          وقد قال تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .

                                                                                                                                                                                          وقال عليه الصلاة والسلام { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا } . [ ص: 322 ] فإذ لكل وارث نصيب مفروض - مما قل أو كثر - فحرام أخذ شيء منه وإعطاؤه لغيره بغير نص وارد في ذلك ، ولم نجد لهذا القول حجة أصلا إلا التي سلفت قبل مما قد أبطلناه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية