الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 111 ]

                                                                                                                                                                                                                                            ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى ، وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور ، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات ، أو من باب الدنيا والمعاملات ، وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة ، لا جرم أمر بها في هذه الآية . وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار - وكان سادن الكعبة - باب الكعبة ، وصعد السطح ، وأبى أن يدفع المفتاح إليه ، وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه ، فلوى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يده وأخذه منه وفتح ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة ، فنزلت هذه الآية ، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه ، فقال عثمان لعلي : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فهبط جبريل - عليه السلام - وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن السدانة في أولاد عثمان أبدا . فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحق . وقال أبو روق : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان : أعطني المفتاح فقال : هاك بأمانة الله ، فلما أراد أن يتناوله ضم يده ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك مرة ثانية : إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح ، فقال : هاك بأمانة الله ، فلما أراد أن يتناوله ضم يده ، فقال الرسول - عليه الصلاة والسلام - ذلك مرة ثالثة ، فقال عثمان في الثالثة : هاك بأمانة الله ، ودفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف ومعه المفتاح ، وأراد أن يدفعه إلى العباس ، ثم قال : يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان : " هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم " ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية ، بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات ، واعلم أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد ، أو مع نفسه ، ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما رعاية الأمانة مع الرب : فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات ، وهذا بحر لا ساحل له ، قال ابن مسعود : الأمانة في كل شيء لازمة ، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم . وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : إنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال : هذا أمانة خبأتها عندك ، فاحفظها إلا بحقها . واعلم أن هذا باب واسع ، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام ، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي ، وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها ، وكذا القول في جميع الأعضاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق ، فيدخل فيها رد الودائع ، ويدخل فيه ترك التطفيف [ ص: 112 ] في الكيل والوزن ، ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة ، بل يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ونهيهم عن قولهم للكفار : إن ما أنتم عليه أفضل من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويدخل فيه أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ، ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها ، وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره . وفي إخبارها عن انقضاء عدتها .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أمانة الإنسان مع نفسه ، فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا ، وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " . فقوله : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات ) يدخل فيه الكل ، وقد عظم الله أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) [ الأحزاب : 72 ] وقال : ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [ المؤمنون : 8 ] وقال : ( وتخونوا أماناتكم ) [ الأنفال : 27 ] وقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا إيمان لمن لا أمانة له " وقال ميمون بن مهران : ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر : الأمانة والعهد وصلة الرحم . وقال القاضي : لفظ الأمانة وإن كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فوجب أن يكون المراد بهذه الأمانة ما يجري مجرى المال ؛ لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الأمانة مصدر سمي به المفعول ؛ ولذلك جمع فإنه جعل اسما خالصا . قال صاحب " الكشاف " : قرئ " الأمانة " على التوحيد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال أبو بكر الرازي : من الأمانات الودائع ، ويجب ردها عند الطلب ، والأكثرون على أنها غير مضمونة . وعن بعض السلف أنها مضمونة ، روى الشعبي عن أنس قال : استحملني رجل بضاعة ، فضاعت من بين ثيابي ، فضمنني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - . وعن أنس قال : كان لإنسان عندي وديعة ستة آلاف درهم ، فذهبت ، فقال عمر : ذهب لك معها شيء ؟ قلت : لا ، فألزمني الضمان . وحجة القول المشهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ضمان على راع ولا على مؤتمن " وأما فعل عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية