الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            عظم المصيبة وما نزل بالمسلمين بموته- صلى الله عليه وسلم- والظلمة التي غشيت المدينة وتغير قلوب الناس وأحوالهم

            روى ابن ماجه عن عائشة - رضي الله تعالى عنها- قالت : فتح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بابا بينه وبين الناس أو كشف سترا فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم فقال : يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي .

            وروى ابن سعد وابن الجوزي عن عطاء مرسلا قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «إذا أصابت أحدكم بمصيبة فليذكر مصابه بي ، فإنها من أعظم المصائب» .

            وروى البيهقي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها- قالت : يا لها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت ، إذا ذكرنا مصيبتنا به- صلى الله عليه وسلم- .

            وروى ابن سعد عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «سيعزي الناس بعضهم بعضا من بعدي التعزية بي» فكان الناس يقولون : ما هذا ؟ فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقي الناس بعضهم بعضا يعزي بعضهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- .

            ورحم الله تعالى القائل :


            اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد     واصبر كما صبر الكرام فإنها
            نوب تنوب اليوم تكشف في غد     وإذا أتتك مصيبة تسجى بها
            فاذكر مصابك بالنبي محمد

            وقال القائل :


            تذكرت لما فرق الدهر بيننا     فعزيت نفسي بالنبي محمد
            وقلت لها إن المنايا سبيلنا     فمن لم يمت في يومه مات في غد

            قال ابن المنير : لما توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسجته الملائكة ودهش الناس واختلف أحوالهم في ذلك وأقحموا واختلطوا فمنهم من خبل ومنهم من أقعد ومنهم من أصمت فلم يطق الناس الكلام ، ومنهم من أخبل فكان عمر فجعل يجلب ويصيح ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال ابن إسحاق : قال الزهري ، وحدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب ، فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي ؛ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ؛ ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وكان ممن أقعد وفي لفظ عقر علي فلم يستطع حراكا ، وكان من أخرس عثمان بن عفان حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما ، وأما عبد الله بن أنيس فأضني حتى مات كمدا .

            وروى ابن سعد عن عكرمة قال : لما توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالوا : عرج بروحه كما عرج بروح عيسى الحديث وقال العباس- رضي الله تعالى عنه- : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأسن كما يأسن البشر وإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد مات . . . . . إلى آخره ، فهذا مرسل كما ترى ، ورواه إسحاق بن راهويه بسند رجاله رجال البخاري إلا أن عكرمة لم يسمع من العباس فإن كان الواسطة بينهما عبد الله بن عباس فهو صحيح ، وقد رواه الطبراني من طريق ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن العباس بنحوه وهو على شرط البخاري .

            قال الحافظ ابن حجر فما وجد بخطه : وهذا الذي قاله العباس لم ينقله عن توقيف بل اجتهادا على العادة ولا يستلزم أن يقع ذلك ، ولما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تزينت الجنان لقدوم روحه الكريمة كزينة المدينة يوم قدومه إذا كان عرش الرحمن قد اهتز بموت بعض أتباعه فرحا واستبشارا فكيف بقدوم روح الأرواح ، وكادت الجمادات تتصدع من ألم مفارقته- صلى الله عليه وسلم- فكيف بقلوب المؤمنين لما فقد الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح ، كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال : هذه خشبة تحن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه .


            فلو ذاق من طعم الفراق رضوى     لكان من وجده يميد
            فقد حملوني عذاب شوق     يعجز عن حمله الحديد

            وقال غيره :


            وقد كان يدعى لابس الصبر حازما     فأصبح يدعى حازما حين يجزع

            وروى أبو علي بن شاذان عن سالم بن عبيد الأشجعي قال : لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس عليه عمر بن الخطاب .

            وروى أبو الحسن البلاذري بسند جيد عن عروة قال : لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دخل عمر فأصابه خبل فأقبل يقول ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وروي أيضا عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : بكى الناس يوم مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى النساء في الخدور ، وكادت البيوت تسقط من الصراخ .

            وروى ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي : أنه لما قدم المدينة يوم مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا لها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام .

            وروى ابن سعد عن القاسم بن محمد أن رجلا من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذهب بصره فدخل عليه أصحابه يعودونه ، فقال : إنما كنت أريدهما لأنظر بهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأما إذ قبض الله نبيه فما يسرني أن ما بهما بظبي من ظباء تبالة .

            وروى الإمام أحمد وأبو يعلى بسند صحيح وابن أبي شيبة والبزار والطبراني عن الزهري قال : أخبرني رجل من الأنصار من أهل الثقة ، وأبو عبد الله بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعنا عثمان بن عفان يقول : لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسوس رجال فإني كنت فيمن وسوس فمر علي عمر فسلم فلم أرد عليه ما علمت بتسليمه . . الحديث .

            وروى ابن سعد وابن أبي شيبة والإمام أحمد وابن عدي والدارقطني في «الإفراد» والعقيلي والبيهقي في «شعب الإيمان» والضياء عن عثمان- رضي الله تعالى عنه- أن رجالا من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حزنوا عليه حتى كاد بعضهم يوسوس وكنت منهم فقلت لأبي بكر : توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل أن أسأله عن نجاة هذه الأمة ، قال أبو بكر : قد سألته عن ذلك ، فقال : من قبل مني الكلمة التي عرضتها على عمي فردها علي فهي له نجاة .

            وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي بسند قال ابن كثير : على شرط الشيخين عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : لما كان اليوم الذي [دخل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي] مات فيه أظلم من المدينة كل شيء .

            وفي رواية : أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض ، وكان أحدنا يبسط يده فلا يبصرها ، وفي رواية : فلم أر يوما أقبح منه فما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا انتهى .

            وروى الإمام أحمد ومسلم والبيهقي عنه قال : إن أم أيمن بكت لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقيل لها : ما يبكيك يا أم أيمن ما عند الله خير لرسوله- صلى الله عليه وسلم- قد أكرم الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- وأدخله جنته ، وأراحه من نصب الدنيا فقالت : والله ما أبكي ، أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة ، فعجب الناس من قولها» .

            وروى أبو الربيع بهذا اليوم- يعني يوم الاثنين- كم خير لست فيه إلى أهل الأرض وأي مصيبة نزلت فيه عشية ضاق عنها منفسح الطول والعرض

            وقال البخاري : ثنا سليمان بن حرب ، ثنا حماد بن زيد ، ثنا ثابت ، عن أنس قال : لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب ، فقالت فاطمة : واكرب أبتاه . فقال لها : " ليس على أبيك كرب بعد اليوم " فلما مات قالت : يا أبتاه أجاب ربا دعاه ، يا أبتاه ، من جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه ، إلى جبريل ننعاه . فلما دفن قالت فاطمة : يا أنس ، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب ؟ ! تفرد به البخاري ، رحمه الله .

            وهذا لا يعد نياحة بل هو من باب ذكر فضائله الحق ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، وإنما قلنا هذا ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النياحة .

            وقد روى الإمام أحمد والنسائي من حديث شعبة ، سمعت قتادة ، سمعت مطرفا يحدث ، عن حكيم بن قيس بن عاصم ، عن أبيه - فيما أوصى به إلى بنيه - أنه قال : ولا تنوحوا علي ; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية