الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ زواجه بأم حبيبة ] وتزوج صلى الله عليه وسلم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عبيد الله بن جحش ، وولدت له حبيبة وبها كانت تكنى ، وهاجر بها إلى الحبشة في الهجرة الثانية ، ثم تنصر هناك ، ومات عنها على النصرانية ، وبقيت أم حبيبة - رضي الله تعالى عنها - على دين الإسلام وأبى الله عز وجل لأم حبيبة ألا تتنصر ، فأتم الله تعالى - الإسلام والهجرة وتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه إياها والذي عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص وأصدقها النجاشي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعمائة دينار على خلاف محكي في الصداق ، والعاقد ، وبعثها مع شرحبيل بن حسنة وجهزها من عنده ، كل ذلك في سنة تسع ، وقيل : كان الصداق مائتي دينار ، وقيل : أربعة آلاف درهم ، والأول النسب ، وروى ابن سعد عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأموي ، قال : قالت أم حبيبة - رضي الله تعالى عنها - : رأيت في النوم كأن زوجي عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة فأصبحت ، فإذا به قد تنصر ، فأخبرته بالمنام ، فلم يحفل وأكب على الخمر حتى مات فأتاني آت في النوم ، فقال : يا أم المؤمنين ، ففزعت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن ، فذكر لأم حبيبة خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها من النجاشي وروى الطبراني بسند حسن عن الزهري - رحمه الله تعالى - قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة وأنكح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية رضي الله عنها عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - من أجل أن أم حبيبة ، أمها صفية بنت أبي العاص ، وصفية عمة عثمان أخت عفان لأبيه وأمه ، وقدم بأم حبيبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرحبيل بن حسنة .

                وروى ابن أبي خيثمة في تاريخه عن مصعب بن عبد الله الزبيري ، قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة ، زوجه إياها النجاشي ، فقيل لأبي سفيان يومئذ وهو مشرك (يحارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : إن محمدا قد نكح ابنتك ، قال : ذاك الفحل لا يقرع أنفه ، وروي أيضا عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال : تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست .

             وروى ابن الجوزي في الصفوة عن سعيد بن العاص قال : قالت أم حبيبة : رأيت في النوم كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهها . ففزعت فقلت : تغيرت والله حاله . فإذا هو يقول حين أصبح : يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر دينا خيرا من النصرانية ، وكنت قد دنت بها ثم دخلت في دين محمد ، ثم رجعت في النصرانية .

              فقلت : والله ما خير لك . وأخبرته بالرؤيا التي رأيتها فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات : فأرى في النوم كأن آتيا يقول : يا أم المؤمنين ففزعت فأولتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني .

              قالت : فما هو إلا أن قد انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن . فإذا جارية له يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت : إن الملك يقول لك إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أزوجه فقالت : بشرك الله بخير . قالت : يقول لك الملك وكلي من يزوجك .

              فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سرورا بما بشرتها .

              فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال : الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - .

              أما بعد : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصدقتها أربعمائة دينار .

              ثم سكب الدنانير بين يدي القوم فتكلم خالد بن سعيد فقال : الحمد لله ، أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - أما بعد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

              ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها . ثم أرادوا أن يقوموا فقال : اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج . فدعا بطعام وأكلوا ثم تفرقوا .

              قالت أم حبيبة : فلما وصل إلي المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني فقلت لها : إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي فهذه خمسون مثقالا فخذيها فاستعيني بها . فأبت وأخرجت حقا فيه كل ما كنت أعطيتها فردته علي وقالت : عزم علي الملك أن لا أرزأك شيئا وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه وقد اتبعت دين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلمت لله عز وجل وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر .

              قالت : فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير فقدمت بذلك كله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يراه علي وعندي فلا ينكره . ثم قالت أبرهة : فحاجتي إليك أن تقرئي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه . قالت : ثم لطفت بي وكانت التي جهزتني ، وكانت كلما دخلت علي تقول : لا تنسي حاجتي إليك .

              قالت : فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بي أبرهة فتبسم وأقرأته منها السلام فقال : وعليها السلام ورحمة الله وبركاته .


              فيما نزل بسبب زواج أم حبيبة - رضي الله تعالى عنها - من القرآن .

              قال الله - سبحانه وتعالى - : عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة [الممتحنة 7 ] .

              تنبيهات :

             الأول : اختلف فيمن زوجها فروي عن سعيد بن العاص ، وروي عن عثمان بن عفان وليس بصواب ، لأن عثمان كان مقدمه من الحبشة قبل وقعة بدر ، وهي ابنة عمته ، وقال البيهقي : إن الذي زوجها خالد بن سعيد بن العاص - رضي الله تعالى عنه - وهو ابن عم أبيها ، لأن العاص بن أمية عم أبي سفيان بن حرب بن أمية ، وروى النجاشي ويحتمل أن يكون النجاشي هو الخاطب ، والعاقد إما عثمان أو خالد بن سعيد بن العاص على ما تضمنه الحديث السابق ، وقيل : عقد عليها النجاشي وكان قد أسلم ، وقيل : إنما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مرجعها من الحبشة ، والأول أثبت من ذلك كله .

              وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها عليه فزوجه إياها ، وأصدقها أربعمائة دينار ، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة - رضي الله تعالى عنه - فجاءه - صلى الله عليه وسلم - بها ، فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم بعث عمرا للخطبة ، وشرحبيل لحملها إليه ، وكان ذلك في سنة سبع من الهجرة ، وكان أبوها حال نكاحها بمكة مشركا محاربا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم .

              الثاني : روى ابن حبان عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : هاجر عبيد الله بن جحش بأم حبيبة بنت أبي سفيان وهي امرأته إلى أرض الحبشة ، فلما قدم أرض الحبشة مرض ، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة ، وبعث معها النجاشي شرحبيل بن حسنة - رضي الله تعالى عنه - وفي هذا إشكالان أحدهما : في الاسم ، فإن المشهور أنه عبيد الله بالتصغير ، كما تقدم ذكره وأنه تنصر .

              ثانيهما : أن عبيد الله ثبت على إسلامه حتى استشهد بأحد - رضي الله تعالى عنه - .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية