الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [180] كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين .

                                                                                                                                                                                                                                      كتب عليكم أي: فرض، كما استفاض في الشرع: إذا حضر أحدكم الموت أي: أمارته وهو المرض المخوف: إن ترك خيرا أي: مالا ينبغي أن يوصي فيه. وقد أطلق في القرآن: الخير وأريد به المال في آيات كثيرة، منها هذه، ومنها قوله: وما تنفقوا من خير [ ص: 407 ] ومنها: وإنه لحب الخير لشديد ومنها: رب إني لما أنـزلت إلي من خير فقير إلى غيرها. وإنما سمي المال خيرا ; تنبيها على معنى لطيف: وهو أن المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعا من وجه محمود..! كما أن في التسمية إشارة إلى كثرته، كما قال بعضهم: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا، ومن مكان طيب..!. وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: أن عليا رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوصي؟ فقال له علي: إنما قال الله: إن ترك خيرا الوصية إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك..! وروى الحاكم عن ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا!. وقال طاوس: لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة: كان يقال: ألفا فما فوقها.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة، وأن مردها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر نائب فاعل كتب بعد أن اشتد التشوف إليه، فقال: الوصية وتذكير الفعل الرافع لها: إما لأنه أريد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكر الضمير في قوله: فمن بدله بعدما سمعه وإما للفصل بين الفعل ونائبه، لأن الكلام لما طال، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله: للوالدين بدأ بهما لشرفهما وعظم حقهما: والأقربين من عداهما من جميع القرابات: بالمعروف وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 408 ] وفي الصحيحين: أن سعدا قال: يا رسول الله، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي: أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: « لا » .. قال: فبالشطر؟ قال: « لا » ..! قال: فالثلث؟ قال: « الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» !. وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الثلث والثلث كثير » ..!.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة: سمعت [ ص: 409 ] حنظلة بن جذيم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل، فشق ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حنيفة: إني أوصيت ليتيم لي بمائة من [ ص: 410 ] الإبل كنا نسميها: المطبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا لا لا..! الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون، فإن كثرت فأربعون » ! وذكر الحديث بطوله.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أكد تعالى الوجوب بقوله: حقا - وكذا قوله -: على المتقين فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية