الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت هذا مثل ثان يذكره سبحانه وتعالى في بيان أولئك الذين يحبطون أعمالهم من صدقات أو صلوات أو حج وغير ذلك من أعمال البر بالرياء أو المن والأذى ، أو التطاول على الناس بما يزعمون لأنفسهم من عمل خير قاموا به .

                                                          وهو يختلف عن التشبيه السابق من ناحيتين :

                                                          أولاهما : في الشكل ، فإن التشبيه الأول كان بصريح اللفظ ، وقد ذكر فيه المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي الكاف في قوله تعالى : كمثل جنة بربوة أما هذا التشبيه فلم يذكر فيه المشبه ولا أداة التشبيه ، وهو من النوع البياني الذي يسميه علماء البلاغة " استعارة تمثيلية " وهي تشبيه حال بحال لم تذكر فيه أداة التشبيه ولا المشبه ، بل ذكر المشبه به فقط ، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه .

                                                          [ ص: 990 ] الناحية الثانية : أن التشبيه الأول فيه تشبيه من يبتغي بعمله مرضاة الله ، وينقي ضميره وقلبه من كل رياء ونفاق ، بالحديقة الغناء المثمرة القائمة على ربوة من الأرض خصبة منتجة ; أما هنا فالتشبيه هو تشبيه من ينقض عمل الخير الذي يعمله برياء يحبطه ، أو من وأذى ، أو مباهاة ومفاخرة ببره بين الناس ، بمن كانت له حديقة فيها نخيل وأعناب ، وأنهار تجري فيها مع الثمرات وقد أصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ، وتكون عونا لهم بعد وفاته فأصابتها رياح شديدة فيها نار فاحترقت .

                                                          ولم يذكر في هذه الآية المشبه ولا أداة التشبيه كما نوهنا ، بل ذكر المشبه به فقط ، فعلينا أن نتكلم في مفردات المشبه به ومعانيها ، ثم نتعرف المشبه ووجه الشبه ، ومغزى هذا التشبيه السامي الكريم .

                                                          والود في قوله تعالى : أيود أحدكم معناه محبة الشيء مع تمنيه ; ولذلك يستعمل في مقام التمني . والنخيل اسم جمع النخل ، والأعناب جمع عنب ، وهو ثمرة الكروم ، وقد جاء في تفسير المنار في السبب في ذكر النخيل دون ثمرتها وهو التمر ، بينما ذكر العنب وهو ثمر الكروم وقالوا في تعليل ذلك : ( إن كل شيء في النخيل نافع للناس في إنفاقهم : ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيله ، فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك ) . والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها صاعدة إلى السماء على هيئة العمود ، وقيل : الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ، وسميت إعصارا لأنها تلتف كالثوب ، أو لأنها تكون سببا في نزول المطر ، فكأنها تعصر السحاب ، فتنزل ما يحمل من ماء ، ولذا فسرت المعصرات في قوله تعالى : وأنـزلنا من المعصرات ماء ثجاجا

                                                          بأنها السحاب ، لأنها تعصر بالإعصار ذلك العصر . والنار التي تكون في الإعصار هي البرق الذي يتسبب عن اصطدام السحاب بتحريك ذلك الإعصار ، أو [ ص: 991 ] أن السحاب مع هذه القوة الشديدة التي يتحرك بها هو أيضا حامل لنار إذا أصابت شيئا أحرقته .

                                                          هذه مفردات المشبه به ومعانيها ، والاستفهام في قوله تعالى : أيود أحدكم أن تكون له جنة هو للإنكار ، وهو لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي ، والمعنى لا يود أحدكم أن يكون له جنة . . إلخ ، ومجيء النفي على صيغة الاستفهام على ذلك النحو ، لتأكيد النفي ، وبيان أن الأمر في ذاته غير معقول ، بحيث لو سئل عنه أي عاقل لأجاب بنفيه ; لأن النفي مجمع عليه من كل العقلاء .

                                                          وخلاصة القول : إنه لا يود أحد أن تكون له جنة فيها نخيل وعنب ، وفيها من كل الثمرات غير النخيل والعنب - وكان النص عليهما لأنهما فاكهة العرب - وإنها مع هذه الثمرات الطيبة ذات منظر بهيج ، فالأنهار تجري من تحتها فتمدها بالخصب ، كما تسر الناظرين ، قد احتازها وقد أصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء من ذكور وإناث يحتاجون إلى مال من بعده يسد عوزهم ، ويقيم أودهم ، ومع هذا الأمل المدخر في هذه الحديقة أصابتها ريح شديدة فيها نار فاحترقت بنارها ; لا يود أحد ذلك أبدا ، وهو شر يتوقاه ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبه إياه .

                                                          هذا هو المشبه به فما هو المشبه ; إنه يفهم من سياق القول من سابقه ولاحقه ; وهو العمل الطيب المنتج الذي يكون مدخر الرجل في حياته الآخرة ، كما كانت الحديقة مدخرة لذريته في كبره ، وهم امتداد حياته وفيهم بقاؤه بعد مماته ، وإنه في هذه الحياة الدنيا الفانية الوشيكة الزوال كمن أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى مدخره بعد مماته ، فهو محتاج إلى مدخره من الأعمال الصالحة بعد وفاته لتكون ذخره وثروته في الحياة الباقية بعد هذه الفانية ، وإنه إذا أبطل ذلك العمل برياء يحبطه ، أو من أو أذى أو مباهاة أو فخر ، يكون كمن يرضى بأن تحترق جنته في كبره بريح عاتية تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي من المدخر لذريته في القابل قليلا .

                                                          هذا هو المشبه المستنبط الذي تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة .

                                                          [ ص: 992 ] ولقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوما لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيمن ترون هذه الآية : أيود أحدكم أن تكون له جنة نزلت ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فغضب عمر ، وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم ! فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله ، وفي رواية أخرى : فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء ) .

                                                          وروي أن عمر رضي الله عنه قال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء .

                                                          وإننا إذا نظرنا إلى سياق الآيات قصرنا المشبه على من يفسد عمله بالمن والأذى والمباهاة والمفاخرة ، ثم إذا نظرنا إلى هاتين الروايتين اعتبرنا المشبه هو حال الرجل يعمل الصالحات ، حتى إذا دنا أجله أو كاد ، عمل عملا غير صالح ، فكانت حاله كحال رجل كل ثروته حديقة غناء فيها من كل الثمرات وكل زوج بهيج ، قد توافر خيرها ، حتى إذا أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى ما يترك من مال ، أصابت ثروته ريح عاتية فذهبت بها ، فترك ذريته من غير شيء . وعلى هذا يكون المقصد والمرمى الاستمرار على عمل البر والمداومة عليه في هذه الدنيا .

                                                          وعندي أن يجعل المشبه خاصا في دائرة السياق الخاص بالمن والأذى والرياء ، ويكون التشبيه على هذا الوجه أن حال من يفعل الخير ويكثر منه ثم يبطله بالمن أو الأذى أو الرياء ، كحال رجل يملك حديقة غناء جعلها موضع أمله في حياته ، وغذاء أولاده بعد وفاته وهو في سن الكبر ، ثم وهو في هذه الشيخوخة الفانية أصاب ثروته ريح أحرقتها ، إنه لا يود أحد أن يكون في هذه الحال ، فكذلك يجب أن ينفر فاعل الخير من تلك الموبقات التي هي كالريح العاصف الذي يهلك الزرع [ ص: 993 ] والنسل ، ويذهب بالثروة المثرية في وقت هو أشد ما يكون حاجة إليه في قابل حياته ، ولذريته بعد مماته .

                                                          وإنه يرشح لهذا المعنى قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما يرشح له كل التشبيهات السابقة .

                                                          وإن وجه الشبه على هذا هو أن في الحالين إبطالا لأمر جوهري في الحياة له نفاسة في ذاته ، وله نفع في الحاضر والقابل ، يذهبه أمر عارض مزيل لا يبقي بعده شيئا مفيدا ، فكما أن الحديقة الغناء ذات النفع في الحاضر والقابل للحاضر ومن يخلفهم يذهب بها الإعصار الشديد المحرق ، فكذلك النفاق والرياء والمن والأذى والتطاول على الناس بفعل الخير يفسد عمل الخير الذي هو ثروة معنوية لفاعله في حاضره ومستقبله ، وفيه رضوان الله وعزته ، فهل يود مؤمن أن تكون حاله كحال من يصيب الإعصار ثروته في كبره ، فيمد يده إلى الناس شيخا هرما فانيا ، ويترك أولاده كلا على الناس من بعده ; لا يود مؤمن ذلك فلا يصح أن يمكن الرياء من نفسه والاستطالة والمباهاة والمن والأذى من لسانه ، فيكون ذلك إعصارا شديدا يذهب بعمله .

                                                          وفي هذا التشبيه فوائد كثيرة :

                                                          أولها : الإشارة إلى أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي متاع قليل ، وعلى المؤمن أن ينتفع بكل لحظة بعمل الخير يحتسبه عند ربه ، كالرجل الذي يكون في شيخوخة فانية فعليه أن يتوقع الموت دائما كما يتوقع صاحب هذه الشيخوخة ، وعليه أن يعمل الخير عمل من يخشى الفوت ، وقد قرب منه الموت .

                                                          ثانيها : أن الرياء والمباهاة والاستطالة بعمل الخير تذهب به بل تحرقه ، كما يحرق الإعصار الحديقة الغناء .

                                                          ثالثها : أن عمل الخير ينمو ويربو وينتج كالحديقة الغناء التي فيها من كل الثمرات والمياه تجري من تحت أغراسها والشمس تمد ثمارها ، فتؤتي أكلها بإذن ربها ، فهي في نماء مستمر دائم .

                                                          [ ص: 994 ] رابعها : أن من مطالب الحياة التي يقرها الدين أن يحرص الرجل على أن يترك لأولاده إذا كانوا ذرية ضعافا ، فضلا من المال يستعينون به في شدائد الحياة ، ولا يكونون كلا على الناس ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن مالك في مرض كان يتوقع الموت منه ، وقد أراد أن يتصدق بماله كله فنهاه وأقره على التصدق بالثلث : " إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .

                                                          هذه بعض إشارات الآية الكريمة وإنها لتشع منها معان سامية متعددة كما يشع الثمر الجيد من الغصن المثمر ، تعالت كلمات الله العليم الحكيم .

                                                          ومن أجل هذه المعاني السامية المنبعثة من ذلك النص الكريم المفهومة من عباراته أو إشارته ، دعا سبحانه إلى التفكير فيها وتدبرها مع غيرها ، فقال عز من قائل :

                                                          كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون هذا ختام هذه الآية الكريمة ، والآيات المقصودة هنا هي الآيات القرآنية ، والمراد من التفكر هو التدبر والتأمل وتعرف مرامي العبارات القريبة والبعيدة ، والتفكر في عواقب الأعمال ونتائجها ، وفي أسبابها وغاياتها . والتشبيه في قوله تعالى : كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فيه تشبيه الكلي العام من بيان الله سبحانه وتعالى في كل آياته ، بهذه الصورة الجزئية التي رأيناها في تلك التشبيهات الرائعة وذلك السياق المحكم ، وتلك المعاني الجلية التي يتدبرها المتدبر ، فتجلى له معان كريمة سامية كلما أعمل فكره وتفكر وقدر ، ومثل ذلك كما يجري في عباراتنا - ولكلام الله المثل الأعلى - أن يقول عندما يعمل عملا جيدا يعمله فيستحسن ، فيقول : كذلك أعمل دائما ، أي كهذا العمل الذي استحسنتموه كل عمل . ومعنى التشبيه في الآية الكريمة على هذا يكون هكذا : كهذا البيان الجلي الرائع الذي بدا في هذا المثل المحكم بيان الله الكلي لكل آياته في كتابه الحكيم .

                                                          [ ص: 995 ] ولعل في قوله تعالى : لعلكم تتفكرون هي في الرجاء ، وليس الرجاء من الله تعالى ; لأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء ، فلا يكون منه رجاء وتوقع ; لأن ذلك شأن من لا يعلم ، إنما يكون منه سبحانه وتعالى تحقق وتأكد ; وإنما معنى الرجاء هو المتفق مع ذات البيان ; لأن ذلك من شأنه أن يرجى معه تفكر المتفكر وتدبر المتدبر ; ولذلك قال بعض العلماء : إن لعل هنا للتعليل ، فالمعنى كان ذلك البيان لتتفكروا وتتدبروا .

                                                          والمعنى الإجمالي لذلك الختام الكريم لهذا المثل السامي الحكيم : يبين الله سبحانه وتعالى آياته دائما ، كذلك البيان الذي اتضح لكم في هذا المثل الرائع المحكم الذي تتسع آفاق الفكر في إدراكه ، فينال كل منه بمقدار إدراكه ، فبيان الله دائما من ذلك النوع ، لتتفكروا وتتأملوا آيه ، وتدركوا مراميها القريبة والبعيدة .

                                                          وفقنا الله سبحانه وتعالى لإدراك معاني كتابه ، والعمل به ، وألهمنا الصواب في فهمه ; إنه سبحانه وتعالى الهادي إلى الحق دائما .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية