الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          ولا يثبت الملك للموصى له إلا بالقبول بعد الموت ، فأما قبوله ورده قبل الموت ، فلا عبرة به فإن مات الموصى له قبل موت الموصي ، بطلت الوصية ، وإن ردها بعده ، بطلت أيضا ، وإن مات بعده وقبل الرد والقبول ، أقام وارثه مقامه ، ذكره الخرقي ، وقال القاضي : تبطل الوصية في قياس قوله ، وإن قبلها بعد الموت ثبت الملك حين القبول في الصحيح ، فما حدث قبله من نماء منفصل ، فهو لورثته ، وإن كان متصلا تبعها ، وإن كانت الوصية بأمة فوطئها الوارث قبل القبول فأولدها ، صارت أم ولد له ، ولا مهر عليه ، وولده حر ، لا يلزمه قيمته ، وعليه قيمتها للموصي ، وإن وصى له بزوجته فأولدها قبل القبول لم تصر أم ولد له ، وولده رقيق ، ومن أوصى له بأبيه ، فمات قبل القبول ، فقبل ابنه ، عتق الموصى به حينئذ ، ولم يرث شيئا ، فتنعكس هذه الأحكام .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( ولا يثبت الملك للموصى له إلا بالقبول بعد الموت ) أي : إذا كانت لمعين يمكن القبول منه في قول جمهور الفقهاء ; لأنه تمليك مال فاعتبر قبوله كالهبة ، قال أحمد : الهبة والوصية واحدة ، ولا يتعين القبول باللفظ ، بل يحصل به وبما قام مقامه كالهبة والبيع ، ويجوز القبول على التراخي كالفور ، وحينئذ الملك له شرطان ، الأول : القبول ، الثاني : أن يكون القبول بعد موت الموصي ; لأنه قبل ذلك لم يثبت له حق ، فأما إن كانت لغير معين كالفقراء ، أو لا يمكن حصرهم كبني تميم ، أو على مصلحة مسجد أو حج ، لم يفتقر إلى قبول ، ولزمت بمجرد الموت ; لأن اعتبار القبول منهم متعذر ، فسقط اعتباره كالوقف عليهم ، ولا يتعين واحد منهم ، فيكتفى به ، ولو كان فيهم ذو رحم من الموصى له ، كمن أوصى بعبد للفقراء وأبوه منهم ، لم يعتق عليه ; لأن الملك لا يثبت لكل منهم إلا بالقبض ( فأما قبوله ورده قبل الموت ، فلا عبرة به ) لأنه لم يثبت له حق [ ص: 20 ] ( فإن مات الموصى له قبل موت الموصي ، بطلت الوصية ) في قول أكثر العلماء ; لأنها عطية صادفت المعطى ميتا ، فلم تصح ، كما لو وهب ميتا إلا أن يكون أوصى بقضاء دينه ، فلا تبطل ، قاله الحارثي وغيره ( وإن ردها بعده ، بطلت أيضا ) للرد أحوال :

                                                                                                                          منها : أن يردها قبل موت الموصي ، فلا يصح الرد ، وقد ذكره ; لأن الوصية لم تقع بعد ، أشبه رد المبيع قبل إيجاب البيع ، ولأنه ليس بمحل للقبول .

                                                                                                                          ومنها : أن يردها بعد الموت ، وقبل القبول ، وهي مسألة المتن فيصح الرد ، وتبطل الوصية بغير خلاف نعلمه ; لأنه أسقط حقه في حالة يملك قبوله وأخذه ، أشبه عفو الشفيع عنها بعد البيع .

                                                                                                                          ومنها : أن يرد بعد القبول والقبض ، فلا يصح الرد ; لأن ملكه قد استقر عليه ، أشبه رده كسائر أملاكه إلا أن ترضى الورثة بذلك ، فتكون هبة منه لهم يفتقر إلى شروطها .

                                                                                                                          ومنها : أن يرد بعد القبول وقبل القبض ، فلا يصح الرد ; لأن الملك يحصل فيه بالقبول من غير قبض ، وقيل : يصح فيما كيل ، أو وزن ، دون المعين في الأشهر فيهما ، وقيل : يصح مطلقا بناء على أن القبض معتبر فيه ، فإن لم يقبل ، فكمتحجر مواتا ، أي للورثة مطالبته بأحدهما ، فإن امتنع ، حكم عليه بالرد ، وسقط حقه منها ، وكل موضع صح الرد قبل القبول ، أو القبض ، فالمردود إرث ، وليس له رده إذن إلى بعض الورثة ولا إلى غيرهم ، وإذا امتنع الرد بعد القبول والقبض ، فله هبته وتمليكه لوارث وغيره .

                                                                                                                          [ ص: 21 ] فرع : يحصل الرد بقوله رددت الوصية ، وكذا لا أقبلها ، قال أحمد : إذا أوصى لرجل بألف ، فقال : لا أقبلها فهي لورثته .

                                                                                                                          ( وإن مات بعده ، وقبل الرد والقبول ، أقام وارثه مقامه ، ذكره الخرقي ) قدمه في الفروع ، وجزم به في الوجيز ; لأنه حق ثبت للموروث ، فينتقل إلى الوارث بعد موته ، ولقوله عليه السلام من ترك حقا فلورثته ، وكخيار العيب ، ثم إن كان الوارث جماعة اعتبر القبول والرد من جميعهم ، وإن رد بعض وقبل آخر ، وترتب على كل حكمه ، فإن كان فيهم موليا عليه ، تقيد وليه بفعل الأحظ ( وقال القاضي : تبطل الوصية ) وهو رواية ; لأنها تفتقر إلى القبول ، فإذا مات قبله بطلت كالهبة ( في قياس قوله ) أي : قول الإمام ; لأنه خيار لا يعتاض عنه ، فبطل كخيار المجلس والشرط والشفعة ، نص عليه ، وهذا مثله ، وحكى في المغني والشرح : البطلان ، عن ابن حامد ، وأن القاضي قال : هو قياس المذهب ( وإن قبلها بعد الموت ، ثبت الملك ) للموصى له ( حين القبول في الصحيح ) من المذهب ، أومأ إليه أحمد ، وهو قول أهل العراق ; لأنه تمليك عين لمعين تفتقر إلى القبول ، فلم يسبق الملك القبول كسائر العقود ، والقبول من تمام السبب ، والحكم لا يتقدم سببه ولا شرطه ، وفيه وجه آخر ذكره أبو الخطاب ، وقدمه في الرعاية : أنه إذا قبل تبينا أن الملك ثبت حين موت الموصي ; لأن ما وجب انتقاله بالقبول ، وجب انتقاله من جهة الموجب عند الإيجاب كالهبة ، واختار أبو بكر أن الملك يقف مراعى ، وعلى الأول هل هي قبل القبول على ملك الميت أو الورثة ؛ فيه وجهان ، ونص أحمد في مواضع أنه لا يعتبر له القبول : فيملكه قهرا [ ص: 22 ] كالميراث ، وحكاه الحلواني عن الأصحاب ، ولهذا الاختلاف فوائد نبه المؤلف على بعضها .

                                                                                                                          ( فما حدث قبله ) أي : قبل القبول ( من نماء منفصل ) كالولد والثمرة فهو لورثته ; لأنه ملكهم ، فعلى هذا يزكونه ، وقيل : للميت ، وقيل : منذ مات الوصي فيزكيه ، وفي القواعد أن النماء المنفصل إن قلنا : هو على ملك الموصى له ، فهو له لا يحسب عليه من الثلث ، وإن قلنا : هو ملك الميت ، فتتوفر به التركة فيزداد به الثلث ، وإن قلنا : على ملك الورثة ، فنماؤه لهم خاصة ، وذكر القاضي في خلافه : أن ملك الموصى له لا يتقدم القبول ، وأن النماء قبله للورثة مع أن العين باقية على حكم مال الميت ، فلا يتوفر به الثلث ; لأنه لم يكن ملكا له حين الموت ( وإن كان متصلا ، تبعها ) كما يتبع في العقود والفسوخ ( وإن كانت الوصية بأمة فوطئها الوارث قبل القبول ) ( فأولدها صارت أم ولد له ) لأنه وطئ مملوكته ( ولا مهر عليه ) لأن الإنسان لا يجب عليه مهر من وطء مملوكته ( وولده حر ) لأنه وطئها في ملكه ( لا يلزمه قيمته ) لأنه لا حق فيه لأحد ، بل انعقد حرا ( وعليه قيمتها للموصي ) إذا قبلها ; لأنه فوتها عليه ، أشبه ما لو أتلفها ، لا يقال كيف قضيتم هنا بعتقها ، وهي لا تعتق بإعتاقه ; لأن الاستيلاد أقوى بدليل نفوذه من المجنون والمراهق ، والشريك المعسر ، وإن لم ينفذ إعتاقهم ، لكن إذا ، وطئها الموصى له قبل قبولها ، كان ذلك قبولا لها ، ويثبت الملك له كوطء من له الخيار .

                                                                                                                          ( وإن وصى له بزوجته ، فأولدها قبل القبول ، لم تصر أم ولد له ) لأنها لم تصر [ ص: 23 ] ملكا له بعد ( وولده رقيق ) لأنه من وطء في ملك غيره ( ومن أوصى له بأبيه فمات ) الموصى له ( قبل القبول ، فقبل ابنه ) صح و ( عتق الموصى به ) وهو الجد ( حينئذ ) أي : حين القبول ، ولم يرث من ابنه ( شيئا ) لأن حريته إنما حدثت حين القبول بعد أن صار الميراث لغيره ( ويحتمل أن يثبت الملك حين الموت ) كالبيع ( فتنعكس هذه الأحكام ) فيكون النماء المنفصل للموصى له كالمتصل ; لأنه نماء ملكه ، وفي الثانية : أنها لا تصير أم ولد له ; لأنه وطء في غير ملك ، وهي باقية على الرق ، وعليه المهر ; لأنه وطئ مملوكة غيره ، وولده رقيق لما ذكرنا ، وفي الثالثة : يكون حر الأصل ، ولا ولاء عليه ، وأمه أم ولد ; لأنها علقت منه بحر في ملكه ، وفي الرابعة تثبت حريته من حين موت الموصي ، ويرث من ابنه السدس ، وللخلاف فوائد أخرى .

                                                                                                                          منها : لو أوصى بأمة لزوجها ، فلم يعلم حتى أولدها ، ثم قبلها ، فإن قيل : يملكها بالموت ، فولده حر وهي أم ولده ، ويبطل نكاحه بالموت ، وإن قيل : لا يملكها إلا بعد القبول ، فنكاحه باق قبل القبول ، وولده رقيق للوارث .

                                                                                                                          ومنها : لو زوج أمته بابنه ، ثم وصى بها لآخر ، وهي تخرج من الثلث ، لم ينفسخ نكاح الابن ، وعلى الثاني عكسه .

                                                                                                                          ومنها : لو وصى لرجل بأرض ، فبنى الوارث فيها ، أو غرس قبل القبول ، ثم قبل ، ففي الإرشاد إن كان الوارث عالما بالوصية قلع غرسه وبناؤه مجانا ، وإن كان جاهلا ، فوجهان ، قال في القواعد : وهذا متوجه على القول بالملك بالموت [ ص: 24 ] أما إن قيل : إنها قبل القبول على ملك الوارث ، فهو كبناء مشتري الشقص المشفوع وغرسه فيكون محترما يتملك بقيمته .

                                                                                                                          ومنها : لو بيع شقص في تركة الورثة ، والموصى له قبل قبوله ، فإن قلنا : الملك له من حين الموت ، فهو شريك للورثة في الشفعة ، وإلا فلا حق له فيها .

                                                                                                                          ومنها جريانه من حين الموت في حول الزكاة ، فإن قلنا : يملكه الموصى له جرى في حوله ، فإن قلنا : للورثة ، فهل يجري في حولهم حتى لو تأخر القبول سنة ، كانت زكاته عليهم ، أم لا لضعف ملكهم فيه ، وتزلزله ، وتعلق حق الموصى له به فهو كمال المكاتب ؛ فيه تردد .

                                                                                                                          ومنها : لو نقص الموصى به في سعر ، أو صفة ، فذكر جماعة أنه يقوم بسعره وقت الموت ، وفي المحرر إن قلنا : يملكه بالموت ، اعتبرت قيمته من التركة بسعره يوم الموت على أدنى صفاته من يوم الموت إلى القبول ; لأن الزيادة حصلت في ملكه ، فلا تحسب عليه ، والنقص لم يدخل في ضمانه ، وإن قلنا : يملكه من حين القبول ، اعتبرت قيمته يوم القبول سعرا وصفة ; لأنه لم يملكه قبل ذلك ، وذكر الخرقي ، ونص عليه : أنه تعتبر قيمته يوم الوصية ، ولم يحك في المغني خلافا ، فظاهره : أنه يعتبر سعره بيوم الموت على الوجوه كلها ; لأن حقه تعلق بالموصى به تعلقا قطع تصرف الورثة فيه فيكون ضمانه عليه كالعبد الجاني .




                                                                                                                          الخدمات العلمية