الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في كسب الحجام 2368 - ( عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام ، ومهر البغي ، وثمن الكلب } رواه أحمد )

                                                                                                                                            2369 - ( وعن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كسب الحجام خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وثمن الكلب خبيث } رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي ولفظه { : شر المكاسب : ثمن الكلب ، وكسب الحجام ، ومهر البغي } )

                                                                                                                                            2370 - ( وعن محيصة بن مسعود { أنه كان له غلام حجام ، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 340 ] عن كسبه ، فقال : ألا أطعمه أيتاما لي ؟ قال لا ، قال : أفلا أتصدق به ؟ قال : لا ، فرخص له أن يعلفه ناضحه } رواه أحمد وفي لفظ : أنه { استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها ، ولم يزل يسأله فيها حتى قال : اعلفه ناضحك أو أطعمه رقيقك } رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي هريرة قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد رجال الصحيح ، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط : وأخرجه أيضا الحازمي في الناسخ والمنسوخ بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من السحت مهر البغي وأجرة الحجام } ويشهد له ما أخرجه الحازمي أيضا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال { : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام } وحديث رافع أخرجه أيضا مسلم ، وحديث محيصة أخرجه أيضا مالك وابن ماجه قال في الفتح : ورجاله ثقات ، وأخرج أحمد نحوه في مسنده من حديث جابر ، ولفظه { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن كسب الحجام ، فقال : أطعمه ناضحك } وقال في مجمع الزوائد : إنه أخرج حديث محيصة المذكور أهل السنن الثلاث باختصار والطبراني في الأوسط قال في مجمع الزوائد أيضا : ورجال أحمد رجال الصحيح وقال في حديث جابر الذي ذكرناه إن رجاله رجال الصحيح

                                                                                                                                            قوله : ( البغي ) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد الياء بمعنى فاعلة أو مفعولة وهي الزانية ومنه قوله تعالى: { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } أي : على الزنا ، وأصل البغي الطلب ، غير أنه أكثر ما يستعمل في طلب الفساد والزنا ، والمراد ما تكتسبه الأمة بالفجور لا بالصنائع الجائزة ، وقد قدمنا في أول كتاب البيع أنه مجمع على تحريم مهر البغي قوله : ( وثمن الكلب ) قد تقدم الكلام عليه في أول البيع ، وقد استدل بأحاديث الباب من قال بتحريم كسب الحجام وهو بعض أصحاب الحديث كما في البحر ; لأن النهي حقيقة في التحريم ، والخبيث حرام ، ويؤيد هذا تسمية ذلك سحتا كما في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه وذهب الجمهور من العترة وغيرهم إلى أنه حلال ، واحتجوا بحديث أنس وابن عباس الآتيين وحملوا النهي على التنزيه ; لأن في كسب الحجام دناءة والله يحب معالي الأمور ، ولأن الحجامة من الأشياء التي تجب للمسلم على المسلم للإعانة له عند الاحتياج إليها

                                                                                                                                            ويؤيد هذا إذنه صلى الله عليه وسلم لما سأله عن أجرة الحجامة أن يطعم منها ناضحه ورقيقه ، ولو كانت حراما لما جاز الانتفاع بها بحال ومن أهل هذا القول من زعم أن النهي منسوخ ، وجنح إلى ذلك الطحاوي ، وقد عرفت أن صحة النسخ متوقفة على العلم بتأخر الناسخ وعدم إمكان الجمع بوجه ، والأول غير ممكن ، هذا والثاني ممكن بحمل النهي على كراهة التنزيه بقرينة إذنه صلى الله عليه وسلم بالانتفاع بها في بعض المنافع ، [ ص: 341 ] وبإعطائه صلى الله عليه وسلم الأجر لمن حجمه ، ولو كان حراما لما مكنه منه ويمكن أن يحمل النهي عن كسب الحجام على ما يكتسبه من بيع الدم ، فقد كانوا في الجاهلية يأكلونه ولا يبعد أن يشتروه للأكل فيكون ثمنه حراما ، ولكن الجمع بهذا الوجه بعيد ، فيتعين المصير إلى الجمع بالوجه الأول ، ويبقى الإشكال في صحة إطلاق اسم الخبث والسحت على . المكروه تنزيها

                                                                                                                                            قال في القاموس : الخبيث : ضد الطيب ، وقال : السحت بالضم وبضمتين : الحرام ، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار ا هـ . ويدل على جواز إطلاق اسم الخبث والسحت على المكاسب الدنيئة وإن لم تكن محرمة ، والحجامة كذلك فيزول الإشكال وجمع ابن العربي بين الأحاديث بأن محل الجواز إذا كانت الأجرة على عمل معلوم ، ومحل الزجر على ما إذا كانت على عمل مجهول وحكى صاحب الفتح عن أحمد وجماعة الفرق بين الحر والعبد ، فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة وقالوا : يحرم عليه الإنفاق على نفسه منها ، ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب منها ، وأباحوها للعبد مطلقا ، وعمدتهم حديث محيصة ، لأنه أذن له صلى الله عليه وسلم أن يعلف منه ناضحه

                                                                                                                                            والناضح : اسم للبعير والبقرة التي ينضح عليها من البئر أو النهر ورواية الموطأ " وأطعمه نضاحك " بضم النون وتشديد الضاد جمع ناضح قال ابن حبيب : النضاح : الذين يسقون النخيل ، واحده ناضح من الغلمان ومن الإبل ، وإنما يفترقون في الجمع ، فجمع الإبل نواضح ، والغلمان نضاح

                                                                                                                                            2371 - ( وعن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ، حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه } متفق عليه ، وفي لفظ { : دعا غلاما منا حجمه فأعطاه أجره صاعا أو صاعين ، وكلم مواليه أن يخففوا عنه من ضريبته } رواه أحمد والبخاري )

                                                                                                                                            2372 - ( وعن ابن عباس قال : { احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتا لم يعطه } رواه أحمد والبخاري ومسلم ، ولفظه : { حجم النبي صلى الله عليه وسلم عبد لبني بياضة ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجره وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته } ولو كان سحتا لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم ) قوله ( أبو طيبة ) بفتح الطاء المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة واسمه نافع [ ص: 342 ] قوله : ( وأعطاه صاعين من طعام ) في الرواية الأخرى " صاعا أو صاعين " وفي رواية أبي داود { فأمر له بصاع من تمر } وفي رواية لمسلم { فأمر له بصاع أو مد أو مدين } على الشك

                                                                                                                                            قوله : { وكلم مواليه } في رواية أبي داود { فأمر أهله } والمراد بمواليه ساداته وجمع لكونه كان مملوكا لجماعة كما يدل على ذلك رواية مسلم { حجم النبي صلى الله عليه وسلم عبد لبني بياضة } قوله : ( فخففوا عنه ) في الكلام حذف والتقدير كلم مواليه أن يخففوا عنه فخففوا عنه كما في الرواية الأخرى ولفظ أبي داود " فأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه " وفيه جواز الشفاعة للعبد إلى مواليه في تخفيف الخراج عنه قوله : ( ولو كان سحتا ) قد تقدم ضبطه وتفسير معناه في شرح الأحاديث التي قبل هذا وفي رواية للبخاري { ولو علم كراهة لم يعطه } يعني : كراهة تحريم وفي رواية له أيضا " ولو كان حراما لم يعطه " وذلك ظاهر في الجواز

                                                                                                                                            قوله : ( من ضريبته ) الضريبة تطلق على أمور منها غلة العبد كما في القاموس وهي بفتح المعجمة فعيلة بمعنى مفعولة وجمعها ضرائب ، ويقال لها خراج وغلة وأجر والحديثان يدلان على أن أجرة الحجامة حلال ، وقد قدمنا الخلاف في ذلك وما هو الحق .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية