الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1977 (13) باب

                                                                                              فضل صيام يوم عرفة وترك صيامه لمن كان بعرفة

                                                                                              [ 992 ] عن أبي قتادة الأنصاري ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صومه ، قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، وبيعتنا بيعة .

                                                                                              زاد في رواية : نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه . قال: فسئل عن صيام الدهر ؟ فقال: لا صام ولا أفطر (أو ما صام وما أفطر) قال: فسئل عن صيام يومين وإفطار يومين قال: ومن يطيق ذلك ؟ ! قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين ؟ قال: ليت أن الله قوانا على ذلك ، قال: وسئل عن صيام يوم وإفطار يوم ؟ قال: ذلك صيام أخي داود ، قال: وسئل عن صوم يوم الإثنين ؟ قال: ذلك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت (أو أنزل علي فيه) قال: فقال: صوم ثلاثة من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر ، قال: وسئل عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء . فقال: يكفر السنة الماضية .


                                                                                              رواه أحمد (5 \ 296 و 297 )، ومسلم (1162) (196 و 197 )، وأبو داود (2426)، والنسائي (4 \ 207) .

                                                                                              [ ص: 185 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 185 ] (13) ومن باب: فضل صيام يوم عرفة

                                                                                              قول أبي قتادة : ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صومه فغضب ) ; غضبه عند هذا السؤال يحتمل أوجها :

                                                                                              أحدها : أنه فهم عن السائل: أنه إنما سأل عن صومه ليلتزمه ، وربما يعجز عنه ، فغضب لذلك ، ولم يجبه .

                                                                                              وثانيها : أنه فهم أن السائل إنما سأل ليعلم مقدار ذلك فيزيد عليه ، كما قد سأل نفر عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقالوها ، وقالوا : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك .

                                                                                              فقال أحدهم : أما أنا: فأصوم ولا أفطر . وقال الآخر : أما أنا: فأصلي الليل ولا أنام . وقال الآخر : أما أنا : فلا أنكح النساء . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أما أنا فأصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .

                                                                                              وثالثها : لعله إنما غضب لما يؤدي إليه من إظهار عمل السر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (إن من شر الناس المجاهرين) ; قيل : ومن هم ؟ قال : (الرجل يعمل العمل بالليل ، فيقول : يا فلان ! عملت البارحة كذا . فيبيت يستره ربه ، ويصبح فيكشف ستر الله عنه) .

                                                                                              وقد ذكر في ذلك أوجه هذه أقربها ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              [ ص: 186 ] وقول عمر : ( رضينا . . . .) إلخ ; يقتضي تسكين غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث : إنه يقتضي الطواعية الكلية ، والانقياد التام ، ويتضمن ذلك : مرنا بأمرك ننفذه على أي وجه ، وفي أي محل ، ومن حيث : التعوذ بالله وبرسوله ، وهو الالتجاء إليهما ، والاستجارة بهما من غضبهما .

                                                                                              وقد كان عمر - رضي الله عنه - جعل هذا الكلام هجيراه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما غضب ، فإنه قد روي : أنه قال له هذا الكلام مرارا في مواطن متعددة .

                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن صيام الأبد فقال - : ( لا صام ولا أفطر ) ; يحتمل أن يكون دعا عليه ، لا أنه أخبر عنه ، ويحتمل أن يكون خبرا عن أنه لم يأت بشيء . ووجه ذلك : أن من سرد الصوم صار له عادة ، ولم يجد له مشقة ، فيعود النهار في حقه كالليل في حق غيره ، فكأنه ما صام ; إذ لم يجد ما يجده الصائم ، ولا أفطر لصورة الصوم ، وتكون (لا) بمعنى (ما) ; كما قال تعالى : فلا صدق ولا صلى وحمل كثير من العلماء هذا على ما إذا صام الأيام المحرمة ، فأما لو أفطرها : فكرهه قوم ، وأجازه آخرون . وقال أبو الطاهر بن بشير : وهو مستحب . وهذا أبعدها .

                                                                                              وقوله - وقد سئل عن صوم يوم وإفطار يومين: (ليت أن الله قوانا على ذلك ) ; يشكل مع وصاله ، وقوله : ( إني أبيت أطعم وأسقى ) . ويرتفع الإشكال : بأن [ ص: 187 ] هذا كان منه - صلى الله عليه وسلم - في أوقات مختلفة : ففي وقت : يواصل الأيام بحكم القوة الإلهية . وفي آخر : يضعف ; فيقول هذا بحكم الطباع البشرية . ويمكن أن يقال : تمنى ذلك دائما ، بحيث لا يخل بحق من الحقوق التي يخل بها من أدام صومه : من القيام بحقوق الزوجات ، واستبقاء القوة على الجهاد ، وأعمال الطاعات ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله في يوم الإثنين : ( فيه ولدت ، وفيه أنبئت ، وفيه أنزل علي ) . قلت : وفيه مات . وكل هذا دليل على فضل هذا اليوم مع ما قد ثبت : أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الخميس ، ويقول فيه وفي يوم الإثنين : (إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) .

                                                                                              وقوله : ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر ) ; هذا إنما كان لأن الحسنة بعشر أمثالها . فثلاث من كل شهر كالشهر بالتضعيف ، ورمضان بغير تضعيف شهر ، فيكمل دهر السنة . فإن اعتبر رمضان بتضعيفه كان بإزاء عشرة أشهر ، فإذا أضيفت ستة أيام شوال كان له صوم ستين بالتضعيف .

                                                                                              وعلى مقتضى مساق هذا الحديث ، وعلى ما تقرر من معناه : تستوي أيام الشهر كلها ، ولا فرق بين أن يصوم هذه الثلاثة أيام أول الشهر ، أو وسطه ، أو آخره . وكذلك قالت عائشة : لم يكن يبالي من أي أيام الشهر كان يصومها . غير أن [ ص: 188 ] النسائي روى هذا الحديث عن جرير ، وقال فيه : صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ، (أيام البيض) صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة .

                                                                                              وهذا يقتضي تخصيص الثلاثة بأيام الليالي البيض ، وهذا - والله تعالى أعلم - لأن الليالي البيض ، وقت كمال القمر ، ووسط الشهر ، وخير الأمور أوساطها ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : (هل صمت من سرة شعبان شيئا ؟) . يعني: وسطه وفي رواية أخرى : (من سرر) ، مكان (سرة) ، وسيأتي .

                                                                                              وقال ابن حبيب : تصام الثلاثة الأيام : أول يوم من الشهر ، والعاشر ، والعشرين . قال : وبلغني أن هذا صوم مالك .

                                                                                              وفي تسمية عرفة : بعرفة ، قولان :

                                                                                              أحدهما : أن جبريل كان يري إبراهيم المناسك ، فيقول : عرفت ، عرفت .

                                                                                              وثانيهما : أن آدم وحواء تعارفا هنالك .

                                                                                              وقوله في صيام يوم عرفة : ( يكفر السنة التي قبله ) ; يعني السنة التي هو [ ص: 189 ] فيها ; لأنه في أواخر السنة ، والتي بعدها : يعني التي تأتي متصلة بشهر يوم عرفة .

                                                                                              وعاشوراء : يكفر السنة التي بعده ; لأنه في أوائل السنة الآتية .




                                                                                              الخدمات العلمية