الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 377 ] الآية الخامسة عشرة قوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون } . فيها أربع مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : قوله : { يغضوا } يعني يكفوا عن الاسترسال قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                              فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله : { يغضوا من أبصارهم } فأدخل حرف { من } المقتضية للتبعيض ، وذكر { ويحفظوا فروجهم } مطلقا . وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : أن غض الأبصار مستعمل في التحريم ; لأن غضها عن الحلال لا يلزم ; وإنما يلزم غضها عن الحرام ; فلذلك أدخل حرف التبعيض في غض الأبصار ، فقال : من أبصارهم .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن من نظر العين ما لا يحرم ، وهو النظرة الأولى والثانية ، فما زاد عليها محرم ، وليس من أمر الفرج شيء ما يحلل .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن من النظر ما يحرم ، وهو ما يتعلق بالأجانب ; ومنه ما يحلل ، وهو ما يتعلق بالزوجات وذوي المحارم ، بخلاف الفرج ، فإن ستره واجب في الملأ والخلوة ; لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة القشيري ; قال : { قلت يا رسول الله ; عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجك ، أو ما ملكت يمينك . فقال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال : إن استطعت ألا يراها أحد فافعل . قلت : فالرجل يكون خاليا ؟ قال : الله أحق أن يستحيا منه } . [ ص: 378 ] { وقد ذكرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالها معه فقالت : ما رأيت ذلك منه ، ولا رأى ذلك مني } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : قوله : { ويحفظوا فروجهم } يعني به العفة ، وهو اجتناب ما نهى الله عنه فيها . وقد تقدم بيانه . وقال أبو العالية : المراد به هاهنا حفظها عن الأبصار ، حتى لا يراها أحد ، وقد تقدم وجوب سترها وشيء من أحكامها في البقرة والأعراف ، وإيضاحه في شرح الحديث والمسائل . المسألة الرابعة : قوله : { ذلك أزكى لهم } :

                                                                                                                                                                                                              يريد أطهر على معاني الزكاة فإنه إذا غض بصره كان أطهر له من الذنوب ، وأنمى لأعماله في الطاعة ; ولذلك { قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : يا علي ، إن لك كنزا في الجنة ، وإنك ذو قرنيها ، فلا تتبع النظرة النظرة ; فإن الأولى لك والثانية ليست لك } وهو أيضا أفرغ لباله وأصلح لأحواله . وقد أنشد أرباب الزهد :

                                                                                                                                                                                                              وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا     لقلبك يوما أتعبتك المناظر
                                                                                                                                                                                                              رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

                                                                                                                                                                                                              وقالوا : من أرسل طرفه أدنى حتفه ، ومن غض البصر كفه عن التطلع إلى المباحات من زينة الدنيا وجمالها ، كما قال الله لنبيه : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } يريد ما عند الله تعالى . [ ص: 379 ] وفي الإسرائليات أن رجلا كان قائما يصلي فنظر إلى امرأة بإحدى عينيه ، فتطأطأ إلى الأرض ، فأخذ عودا ففقأ به عينه التي نظر بها إلى المرأة ، وهي من خير عين تحشر .

                                                                                                                                                                                                              وتحكي الصوفية أن امرأة كانت تمشي على طريق ، فاتبعها رجل حتى انتهت إلى باب دارها ، فالتفتت إليه فقالت له : يا هذا ; ما لك تتبعني ؟ فقال لها : أعجبتني عيناك . فقالت : البث قليلا ، فدخلت دارها ، ثم فقأت عينيها في سكرجة ، وأخرجتهما إليه ، وقالت له : خذ ما أعجبك ، فما كنت لأحبس عندي ما يفتن الناس مني .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية