الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : واذكر ، يا محمد لحجاجك الذي تحاج به قومك ، وخصومتك إياهم في آلهتهم ، وما تراجعهم فيها ، مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون ، وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين ، وحقيقة ما أنت عليهم به محتج حجاج إبراهيم خليلي قومه ، ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان ، وانقطاعه إلى الله والرضا به وليا وناصرا دون الأصنام ، فاتخذه إماما واقتد به ، واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالا ، إذ قال لأبيه مفارقا لدينه ، وعائبا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه : يا آزر . [ ص: 466 ]

ثم اختلف أهل العلم في المعني ب " آزر " وما هو ، اسم هو أم صفة ؟ وإن كان اسما ، فمن المسمى به ؟ فقال بعضهم : هو اسم أبيه .

ذكر من قال ذلك :

13434 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر " قال : اسم أبيه " آزر " .

13435 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل قال حدثني محمد بن إسحاق قال : " آزر " أبو إبراهيم . وكان ، فيما ذكر لنا والله أعلم ، رجلا من أهل كوثى ، من قرية بالسواد ، سواد الكوفة .

13436 - حدثني ابن البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر قال : هو " آزر " وهو " تارح " مثل " إسرائيل " و " يعقوب " .

وقال آخرون : إنه ليس أبا إبراهيم .

ذكر من قال ذلك :

13437 - حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قال : ليس " آزر " أبا إبراهيم .

13437 - حدثني الحارث قال حدثني عبد العزيز قال : حدثنا الثوري قال أخبرني رجل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر " قال : " آزر " لم يكن بأبيه ، إنما هو صنم .

13439 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، [ ص: 467 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " آزر " اسم صنم .

13440 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر " قال : اسم أبيه ، ويقال : لا بل اسمه " تارح " واسم الصنم " آزر " . يقول : أتتخذ آزر أصناما آلهة .

وقال آخرون : هو سب وعيب بكلامهم ، ومعناه : معوج . كأنه تأول أنه عابه بزيغه واعوجاجه عن الحق .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الأمصار : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) بفتح " آزر " على إتباعه " الأب " في الخفض ، ولكنه لما كان اسما أعجميا فتحوه ، إذ لم يجروه ، وإن كان في موضع خفض .

وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك : ( آزر ) بالرفع على النداء ، بمعنى : يا آزر .

فأما الذي ذكر عن السدي من حكايته أن " آزر " اسم صنم ، وإنما نصبه بمعنى : أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فقول من الصواب من جهة العربية بعيد . وذلك أن العرب لا تنصب اسما بفعل بعد حرف الاستفهام ، لا تقول : " أخاك أكلمت " ؟ وهي تريد : أكلمت أخاك .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ بفتح [ ص: 468 ] " الراء " من ( آزر ) ، على إتباعه إعراب " الأب " وأنه في موضع خفض ففتح ، إذ لم يكن جاريا ، لأنه اسم عجمي . وإنما اخترت قراءة ذلك كذلك ، لإجماع الحجة من القرأة عليه .

وإذ كان ذلك هو الصواب من القراءة ، وكان غير جائز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام ، صح لك فتحه من أحد وجهين :

إما أن يكون اسما لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله ، فيكون في موضع خفض ردا على " الأب " ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لما كان اسما أعجميا ترك إجراؤه ففتح ، كما تفعل العرب في أسماء العجم .

أو يكون نعتا له ، فيكون أيضا خفضا بمعنى تكرير اللام عليه ، ولكنه لما خرج مخرج " أحمر " و " أسود " ترك إجراؤه ، وفعل به كما يفعل بأشكاله . فيكون تأويل الكلام حينئذ : وإذ قال إبراهيم لأبيه الزائغ : أتتخذ أصناما آلهة .

وإذ لم يكن له وجهة في الصواب إلا أحد هذين الوجهين ، فأولى القولين بالصواب منهما عندي قول من قال : " هو اسم أبيه " لأن الله - تعالى ذكره - أخبر أنه أبوه ، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم ، دون القول الآخر الذي زعم قائله أنه نعت .

فإن قال قائل : فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى " تارح " فكيف يكون " آزر " اسما له ، والمعروف به من الاسم " تارح " ؟ [ ص: 469 ]

قيل له : غير محال أن يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس في دهرنا هذا ، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبا يلقب به .

التالي السابق


الخدمات العلمية