الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان ( 54 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 55 ) فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( 56 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 57 ) كأنهن الياقوت والمرجان ( 58 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 59 ) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( 60 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 61 ) ) .

يقول تعالى : ( متكئين ) يعني أهل الجنة . والمراد بالاتكاء هاهنا : الاضطجاع . ويقال : الجلوس على صفة التربع . ( على فرش بطائنها من إستبرق ) وهو : ما غلظ من الديباج . قاله عكرمة ، والضحاك وقتادة .

وقال أبو عمران الجوني : هو الديباج المغرى بالذهب . فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة . وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى .

قال أبو إسحاق ، عن هبيرة بن يريم ، عن عبد الله بن مسعود قال : هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر ؟

وقال مالك بن دينار : بطائنها من إستبرق ، وظواهرها من نور .

[ ص: 504 ] وقال سفيان الثوري - أو شريك - : بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد .

وقال القاسم بن محمد : بطائنها من إستبرق ، وظواهرها من الرحمة .

وقال ابن شوذب ، عن أبي عبد الله الشامي : ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر ، وعلى الظواهر المحابس ، ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله . ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم .

( وجنى الجنتين دان ) أي : ثمرها قريب إليهم ، متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا ، كما قال : ( قطوفها دانية ) [ الحاقة : 23 ] ، وقال : ( ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ) [ الإنسان : 14 ] أي : لا تمنع ممن تناولها ، بل تنحط إليه من أغصانها ، ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك : ( فيهن ) أي : في الفرش ( قاصرات الطرف ) أي غضيضات عن غير أزواجهن ، فلا يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن . قاله ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وابن زيد .

وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها : والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، ولا في الجنة شيئا أحب إلي منك ، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك .

( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) أي : بل هن أبكار عرب أتراب ، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن . وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة .

قال أرطاة بن المنذر : سئل ضمرة بن حبيب : هل يدخل الجن الجنة ؟ قال : نعم ، وينكحون ، للجن جنيات ، وللإنس إنسيات . وذلك قوله : ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

ثم قال ينعتهن للخطاب : ( كأنهن الياقوت والمرجان ) ، قال مجاهد ، والحسن ، [ والسدي ] ، وابن زيد ، وغيرهم : في صفاء الياقوت وبياض المرجان ، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا عبيدة بن حميد ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو بن ميمون الأودي ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير ، حتى يرى مخها ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( كأنهن الياقوت والمرجان ) ، فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه " .

وهكذا رواه الترمذي من حديث عبيدة بن حميد وأبي الأحوص ، عن عطاء بن السائب ، به . ورواه موقوفا ، ثم قال : وهو أصح .

[ ص: 505 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يونس ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين ، على كل واحدة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء الثياب " .

تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه . وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : إما تفاخروا وإما تذكروا ، الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟ فقال أبو هريرة : أولم يقل أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان ، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم ، وما في الجنة أعزب " .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، من حديث همام بن منبه وأبي زرعة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد بن طلحة ، عن حميد عن أنس ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، ولقاب قوس أحدكم - أو موضع قيده - يعني سوطه - من الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا ، ولطاب ما بينهما ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " .

ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق ، عن حميد ، عن أنس بنحوه .

وقوله : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) أي : ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة . كما قال تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] .

وقال البغوي : أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام ، حدثنا الحجاج بن يوسف المكتب ، حدثنا بشر بن الحسين ، عن الزبير بن عدي ، عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) ، قال : " هل تدرون ما قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " يقول هل جزاء ما أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " .

ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل ، بل مجرد تفضل وامتنان ، قال بعد ذلك كله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

[ ص: 506 ] ومما يتعلق بقوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، ما رواه الترمذي والبغوي ، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن أبي عقيل الثقفي ، عن أبي فروة يزيد بن سنان الرهاوي ، عن بكير بن فيروز ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " .

ثم قال الترمذي : غريب ، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر .

وروى البغوي من حديث علي بن حجر ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن أبي حرملة - مولى حويطب بن عبد العزى - عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء ; أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص على المنبر وهو يقول : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) . فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال [ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) . فقلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : " وإن ، رغم أنف أبي الدرداء " .

التالي السابق


الخدمات العلمية