الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب لحاق النسب عن عروة عن عائشة أن عتبة بن أبي وقاص قال لأخيه سعد تعلم أن ابن جارية زمعة ابني ، قالت عائشة فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه إليه ، وقال ابن أخي ورب الكعبة فجاء عبد بن زمعة فقال بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي انظر إلى شبهه بعتبة ، قالت عائشة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبها لم ير الناس شبها أبين منه بعتبة ، فقال عبد الله بن زمعة يا رسول الله هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش ، واحتجبي منه يا سودة ، قالت عائشة فوالله ما رآها حتى ماتت زاد الشيخان في رواية وللعاهر الحجر وزاد النسائي من حديث عبد الله بن الزبير بعد قوله ، واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ ، وعن سعيد عن أبي هريرة أو عن أبي سلمة عن أحدهما أو كلاهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وفي رواية للبخاري لصاحب الفراش .

                                                            التالي السابق


                                                            باب لحاق النسب

                                                            الحديث الأول عن عروة عن عائشة أن عتبة بن أبي وقاص قال لأخيه سعد تعلم أن ابن جارية زمعة ابني قالت عائشة فلما كان يوم الفتح رأي سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه إليه ، وقال يا ابن أخي ورب الكعبة فجاء عبد بن زمعة فقال بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي انظر إلى شبهه بعتبة ، قالت عائشة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 122 ] شبها لم ير الناس شبها أبين منه بعينه فقال عبد بن زمعة يا رسول الله بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش ، واحتجبي منه يا سودة قالت عائشة فوالله ما رآها حتى ماتت .

                                                            الحديث الثاني ، وعن سعيد عن أبي هريرة أو عن أبي سلمة عن أحدهما أو كلاهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الولد للفراش ، وللعاهر الحجر (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) الحديث الأول أخرجه من هذا الوجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر ، وأخرجه الشيخان ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من طريق سفيان بن عيينة ، ولفظ البخاري ، وابن ماجه هو لك يا عبد بن زمعة ، ولفظ أبي داود هو أخوك يا عبد ، وأخرجه الشيخان أيضا ، والنسائي من طريق الليث بن سعد ، وفيه ، وللعاهر الحجر وأخرجه البخاري [ ص: 123 ] في خمسة مواضع من صحيحه من طريق مالك بن أنس ، وفيه ، وللعاهر الحجر أربعتهم عن الزهري عن عروة عن عائشة ، وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم عن زهير بن حرب ، وسعيد بن منصور ، وعبد الأعلى بن حماد ، وعمرو الناقد أربعتهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري فقال زهير كما هنا عن سعيد أو عن أبي سلمة أحدهما أو كلاهما عن أبي هريرة .

                                                            وقال سعيد بن سعيد عن أبي هريرة ، وقال عبد الأعلى عن أبي سلمة أو عن سعيد عن أبي هريرة ، وقال عمرو ثنا سفيان مرة عن الزهري عن سعيد ، وأبي سلمة ، ومرة عن سعيد أو عن أبي سلمة ، ومرة عن سعيد عن أبي هريرة ، وأخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع ، والنسائي عن قتيبة ، وابن ماجه عن هشام بن عمار ثلاثتهم عن سفيان عن الزهري عن سعيد به .

                                                            وقال الترمذي حسن صحيح ، وقد رواه الزهري عن سعيد ، وأبي سلمة عن أبي هريرة ، وأخرجه مسلم ، والنسائي من طريق معمر عن الزهري عن سعيد ، وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة ، وبين الدارقطني في العلل الاختلاف على الزهري في ذلك ، وأن من أوجه الاختلاف فيه أن عبد الله بن محمد الزهري رواه عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة وحده عن أبي هريرة ، وعن عروة عن عائشة ثم قال الدارقطني ، وهو محفوظ عن الزهري عنهما يعني عن سعيد ، وأبي سلمة ، ورواه البخاري في صحيحه من طريق شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ الولد لصاحب الفراش .

                                                            (الثانية) قوله (تعلم) بتشديد اللام أي اعلم ، ومنه قول الشاعر

                                                            تعلـــم شــفاء النفس قهــر عدوهــا فبــالغ بلفــظ فــي التحــيل والمكــر

                                                            وهذا الابن المتنازع فيه اسمه عبد الرحمن بن زمعة بفتح الزاي وإسكان الميم ، وروي بفتحها أيضا .

                                                            (الثالثة) قال الخطابي كان أهل الجاهلية يفتنون الولائد ، ويضربون عليهن الضرائب فيكتسبن بالفجور ، وكان من سيرتهم إلحاق النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كهو في النكاح ، وكانت لزمعة أمة كان يلم بها ، وكانت له عليها ضريبة فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة بن أبي وقاص ، وهلك عتبة كافرا لم يسلم فعهد إلى سعد أخيه أن يستلحق الحمل الذي بأمة زمعة ، وكان لزمعة ابن يقال له عبد فخاصم سعد عبد بن زمعة في الغلام الذي ولدته الأمة [ ص: 124 ] فقال سعد هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية .

                                                            وقال عبد بن زمعة بل هو أخي ولد على فراش أبي على ما استقر عليه الحكم في الإسلام ، قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة ، وبطل دعوى الجاهلية ، وذكر القاضي عياض نحو هذا الكلام إلا أنه قال فمن اعترفت الأم أنه له ألحقوه به ، وقال : ولم يكن حصل إلحاقه في الجاهلية إما لعدم الدعوى ، وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة ، وذكر القرطبي الأمرين فقال فمن ألحقته المزني بها التحق به ، ومن ألحقه بنفسه من الزناة بها التحق به إذا لم ينازعه غيره ، وقال : وكأن عبدا قد سمع أن الشرع يلحق بالفراش ، وإلا فلم تكن عادتهم الإلحاق به .



                                                            (الرابعة) استدل به على أن الاستلحاق لا يختص بالأب بل يجوز من الأخ لأن المستلحق هنا أخو المستلحق ، وبه قال الشافعي ، وجماعة لكن بشروط :

                                                            (أحدها) أن يكون حائزا للإرث أو يستلحقه كل الورثة (ثانيها) أن يمكن كون المستلحق ولدا للميت (ثالثها) أن لا يكون معروف النسب من غيره (رابعها) أن يصدقه المستلحق إن كان بالغا عاقلا قال الخطابي فإن قيل جميع الورثة لم يقروا به بل عبد فقط قيل قد روي أنه لم يكن لزمعة يوم مات ، وارث غير عبد فهو بمنزلة جميع الورثة ، وقد لا ينكر أيضا إن ثبت أن سودة وارثة أن تكون وكلت أخاها في الدعوى أو أقرت بذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يذكر ذلك في هذه القصة ، وكذا قال النووي تأوله أصحابنا تأويلين :

                                                            (أحدهما) أن سودة استلحقته أيضا ، و (الثاني) أن زمعة مات كافرا فلم ترثه سودة لكونها مسلمة وورثه عبد بن زمعة انتهى .

                                                            وذهب مالك وطائفة إلى اختصاص الاستلحاق بالأب ، وأجابوا عن هذا الحديث بجوابين (أحدهما) أنه ليس نصا في أنه ألحقه به بمجرد نسبة الأخوة فلعل النبي صلى الله عليه وسلم علم وطء زمعة تلك الأمة بطريق اعتمدها من اعتراف أو غيره فحكم بذلك لا باستلحاق الأخ ، و (الثاني) إن حكمه به له لم يكن بمجرد الاستلحاق بل بالفراش ألا ترى قوله الولد للفراش ، وهذا تقعيد قاعدة فإنه لما انقطع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق إلا أن يلحق بصاحب الفراش إذ قد دار الأمر بينهما ذكرهما أبو العباس ، وقال إن الثاني أحسن الوجهين (قلت) هو الوجه الأول فإنها لا تصير فراشا إلا بالوطء فجواب المالكية [ ص: 125 ] عن هذا الحديث أن إلحاق هذا الولد بزمعة للفراش الذي قد علم بثبوت الوطء لا باستلحاق الأخ ، والله أعلم .



                                                            (الخامسة) فيه أن الأمة تكون فراشا ، وقد اتفق العلماء على أنها لا تكون فراشا بمجرد ملكها فقال مالك ، والشافعي ، وإنما تصير فراشا بالوطء فإذا اعترف سيدها بوطئها أو ثبت ذلك بأي طريق كأن صارت فراشا له فإذا أتت بعد الوطء بولد أو أولاد لمدة الإمكان لحقوه من غير استلحاق كالزوجة إلا أن تلك فراش بمجرد العقد عليها ، والأمة لا تصير فراشا إلا بالوطء .

                                                            والفرق بينهما أن الزوجة تراد للوطء خاصة فجعل العقد عليها كالوطء .

                                                            وأما الأمة فتراد لملك الرقبة ، وأنواع من المنافع غير الوطء ، ولهذا يجوز أن يملك أختين ، وأما ، وبنتها ، ولا يجوز جمعهما بعقد النكاح فلم تصر بنفس الملك فراشا حتى يطأها ، وقال أبو حنيفة لا تصير فراشا إلا إذا ولدت ولدا ، واستلحقه فما تأتى به بعد ذلك يلحقه إلا أن ينفيه ، واعتبر أحمد بن حنبل اعترافه بوطئها في كل ولد تأتي به لأكثر من مدة الحمل فهل يلحقه على وجهين قال : وإن ولدت منه أولا فاستلحقه لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف ، وقيل يلحقه ا هـ .

                                                            وهذا غير المذهبين المتقدمين فإنه اكتفى بالاعتراف بالوطء أولا عن الاستلحاق بعد الولادة إلا أنه لم يكتف باستلحاق ولد في لحاق ما بعده إلا بإقرار مستأنف ، وفي هذا الحديث دلالة للمذهب الأول على الثاني فإنه لم يكن لزمعة ولد آخر من هذه الأمة قبل هذا فدل على أنه ليس بشرط فإن قيل فمن أين لكم أن زمعة كان قد وطئها قلنا لا بد من ذلك للاتفاق على أنها لا تصير فراشا إلا بالوطء قال النووي : واعلم أنه محمول على أنه ثبت مصير أمة أبيه فراشا لزمعة فلهذا ألحق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك انتهى .

                                                            وذكر الشافعي رحمه الله في الأم أن بعض المشرقيين خالفه في ذلك ، واحتج بأن كلا من عمر وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم انتفى من ولد جارية له ثم قال أما عمر رضي الله عنه فروي عنه أنه أنكر حمل جارية له أقرت بالمكروه .

                                                            وأما زيد وابن عباس فعرفا أن ليس منهما فحلال لهما ، وكذلك لزوج الحرة إذا علم أنها حبلت [ ص: 126 ] من زنا أن يدفع ولدها ، ولا يلحق بنسبه من ليس منه فيما بينه وبين الله تعالى ، وقال ابن حزم بعد نقله قول عمر رضي الله عنه إن أحدكم لا يقر بإصابته جاريته إلا ألحقت به الولد ما نعلم في هذا خلافا لصاحب إلا ما روي عن زيد وابن عباس (قلت) الانتفاء من الولد يدل على لحاق نسبه به ، وإلا لم يحتج إلى النفي ففعل زيد وابن عباس موافق لنا ، والله أعلم .

                                                            وذكر الإمام فخر الدين الرازي في مناقب الشافعي أن أبا حنيفة منع من صيرورة الأمة فراشا بالوطء ، وقال لا يلحقه إلا باعترافه ، وحمل هذا الحديث على الزوجة ، وأخرج الأمة عن عمومه فقال الشافعي إن هذا ورد على سبب خاص ، وهي الأمة الموطوءة .

                                                            قال الإمام فتوهم الواقف على هذا الكلام أن الشافعي يقول إن العبرة بخصوص السبب ، ومراده أن خصوص السبب لا يجوز إخراجه عند العموم قطعا ، والأمة هي السبب في ورود العموم فلا يجوز إخراجها ا هـ .

                                                            وممن توهم ذلك إمام الحرمين ، والغزالي ، والآمدي ، وابن الحاجب فنقلوا عن الشافعي ( العبرة بخصوص السبب ) وأنكره الإمام ، وقال ما تقدم .



                                                            (السادسة) فيه أن الولد للفراش في الزوجة أيضا أخذا بعموم اللفظ كما تقدم ، وهذا مجمع عليه لكن بشرط الإمكان فلو نكح مشرقي مغربية ، ولم يفارق واحد منهما وطنه ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يلحقه لعدم إمكان كونه منه ، وكذا لو اجتمعا لكن أتت به لأقل من ستة أشهر من حين إمكان اجتماعهما لم يلحقه أيضا .

                                                            هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد والعلماء كافة إلا أبا حنيفة فلم يشترط الإمكان بل اكتفى بمجرد العقد حتى لو طلق عقب العقد من غير إمكان وطء فولدت لستة أشهر من العقد لحقه الولد قال النووي ، وهذا ضعيف ظاهر الفساد ، ولا حجة له في إطلاق الحديث لأنه خرج على الغالب ، وهو حصول الإمكان عند العقد .

                                                            وقال أبو العباس القرطبي الفراش هنا كناية عن الموطوءة لأن الواطئ يستفرشها أي يصيرها كالفراش ، ويعني به أن الولد لاحق بالواطئ قال الإمام ، وأصحاب أبي حنيفة يحملونه على أن المراد به صاحب الفراش ، ولذلك لم يشترطوا إمكان الوطء في الحرة ، واحتجوا بقول جرير [ ص: 127 ]

                                                            بــــاتت تعانقـــه وبـــات فراشـــها خـــلق العبـــاءة فــي الدمــاء قتــيلا

                                                            يعني زوجها ، والأول أولى لما ذكرناه من الاشتقاق ، ولأن ما قدره من حذف المضاف ليس في الكلام ما يدل عليه ، ولا ما يحوج إليه ، انتهى .

                                                            وفيه تناقض لأنه نقل عن الحنفية أن التقدير صاحب الفراش قال ، وإنه لا دليل على تقدير ذلك ، ونقل عنهم الاحتجاج بإطلاق جرير الفراش على الزوج ورده لمخالفته الاشتقاق ، وذلك يدل على عدم التقدير عندهم لأنه مع التقدير لا مخالفة في الاشتقاق ، والحق ما حكي عنهم من تقدير صاحب الفراش ، وقد دل على ذلك بروز هذا المضاف في رواية للبخاري في صحيحه كما تقدم ، ولكن لا يحصل بذلك مقصودهم من اللحاق بلا إمكان لخروجه على الغالب كما تقدم ، ولولا قيام الدليل على اعتبار الإمكان لحصل مقصودهم ، وإن لم يقدر المضاف المذكور ففي كلام القرطبي نظر من أوجه :

                                                            (أحدها) ما ذكرته من التناقض .

                                                            (ثانيها) كونه رد تقديرا نطق به الحديث الصحيح ، وقد قدره كذلك الخطابي .

                                                            (ثالثها) ما اقتضاه كلامه من حصول مقصودهم مع تقدير المضاف لا مع تقديره .

                                                            (رابعها) كيف يحصل مقصود الجمهور بمجرد كون الفراش هو الموطوء لأن مقتضى ذلك أن الولد للموطوءة ، وليس هذا المراد قطعا فعلم أنه لا بد من تقدير .

                                                            (خامسها) العجب أنه قال إن الفراش هو الموطوءة ثم قال ، ويعني أن الولد لاحق بالواطئ فكيف حمل لفظ للفراش على الموطوءة ثم جعل الحكم اللحاق بالواطئ ، وهل يستقيم ذلك إلا مع تقدير المضاف المذكور ، وقال ابن دقيق العيد قوله الولد للفراش أي تابع للفراش أو محكوم به للفراش أو ما يقارب هذا .

                                                            (السابعة) فيه أن حكم الشبهة ، وحكم القافة إنما يعتمد إذا لم يكن هناك أقوى منه كالفراش فإنه عليه الصلاة والسلام ألحق بالفراش مع الشبه البين بغيره فلم يلتفت إلى الشبه مع اعتماده في موضع آخر ، وذلك لمعارضة ما هو أقوى منه ، وهو الفراش كما تقدم وهذا كما أنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم بالشبه في قصة المتلاعنين مع أنه جاء على الشبه المكروه .



                                                            (الثامنة) حكي عن الشعبي أنه تمسك بعموم قوله الولد للفراش على أن الولد لا ينتفي عمن له الفراش [ ص: 128 ] لا بلعان ، ولا غيره ، وهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة ، ولكافة العلماء قال أبو العباس القرطبي ، وقد حكي عن بعض أهل المدينة ، ولا حجة لهم في ذلك العموم لوجهين (أحدهما) أنه خرج على سبب ولد الأمة فيقتصر على سببه (وثانيهما) أن الشرع قد قعد قاعدة اللعان في حق الأزواج ، وأن الولد ينتفي بالتعانهما فيكون ذلك العموم المظنون مخصصا بهذه القاعدة المقطوع بها ، ولا يختلف في مثل هذا الأصل انتهى .

                                                            والجواب الثاني هو المعتمد ، ولا يتوقف انتفاء الولد عند الشافعي على التعانهما بل يحصل ذلك بلعان الزوج وحده ، وإن لم تلاعن هي ، وقد تقدم ذلك .

                                                            وأما الجواب الأول فهو ضعيف فإن الصحيح في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم إن مقتضاه أن ذلك لا يأتي في الأمة ، وليس كذلك فإن الأمة إذا كانت فراشا فأتت بولد فليس للسيد نفيه إذا ادعى الاستبراء ، وحلف عليه كما صرح به أصحابنا وغيرهم ، وخالف فيه ابن حزم الظاهري ، وقال الشافعي قوله الولد للفراش له معنيان :

                                                            (أحدهما) وهو أعمهما ، وأولاهما أن الولد للفراش ما لم ينفه رب الفراش باللعان الذي نفاه به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نفاه باللعان فهو منفي عنه وغير لاحق بمن ادعاه بزنا ، وإن أشبهه ، والمعنى الثاني إذا تنازع الولد رب الفراش ، والعاهر فالولد لرب الفراش .



                                                            (التاسعة) قوله ، واحتجبي منه يا سودة قال الفقهاء من الشافعية ، والمالكية ، والحنابلة أمرها بذلك على سبيل الاحتياط ، والتنزه عن الشبهة لأنه في ظاهر الشرع أخوها لأنه ألحق بأبيها لكن لما رأى الشبه البين بعتبة خشي أن يكون من مائه فيكون أجنبيا منها فأمرها بالاحتجاب منه احتياطا قال الخطابي .

                                                            وقد كان جائزا ألا يراها لو كان أخاها ثابت النسب ، ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ما ليس لغيرهن من النساء قال الله تعالى يا نساء النبي لستن كأحد من النساء وقد يستدل بالشبه في بعض الصور لنوع من الاعتبار ثم لا يقطع الحكم به ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الملاعنة إن جاءت به كذا وكذا فما أراه إلا كذب عليها ، وإن جاءت به كذا وكذا فما أراه إلا صدق عليها فجاءت به على النعت المكروه ثم لم يحكم به ، وإنما يحكم بالشبه في موضع لم يوجد فيه شيء أقوى منه كالحكم بالقافة .

                                                            وهذا كما يحكم في الحادثة [ ص: 129 ] بالقياس إذا لم يكن فيها نص فإن وجد ترك له القياس ، وفي قوله هو أخوك يا عبد بن زمعة ما قطع الشبه ، ورفع الإشكال في هذا الباب ، وقد جاء في بعض الروايات احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ ، وليس بالثابت ، وقال النووي قوله (ليس لك بأخ) لا يعرف في هذا الحديث بل هي زيادة باطلة مردودة انتهى .

                                                            وقوله إنه لا يعرف مردود فقد رواه النسائي بهذه الزيادة من حديث مجاهد عن يوسف بن الزبير مولى لهم عن عبد الله بن الزبير ، ويوسف هذا ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو العباس القرطبي بعد ذكره إن هذا من باب الاحتياط ، وتوقي الشبهات ، ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق سودة لأنها من زوجاته ، وقد غلظ ذلك في حقهن ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لحفصة ، وعائشة في حق ابن أم مكتوم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه .

                                                            وقال لفاطمة بنت قيس انتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم تضعين ثيابك عنده فأباح لها ما منعه لأزواجه (قلت) ، ولآحاد الناس منع زوجته [ عن ] محارمها قال ابن حزم الظاهري ليس فرضا على المرأة رؤية أخيها لها إنما الفرض عليها صلة رحمه فقط ، ولم يأمرها عليه الصلاة والسلام بأن لا تصله ثم حكي عن بعضهم أنه قال في قوله عليه الصلاة والسلام " هو لك أي هو عبدك " ثم قال الثابت أنه قال هو أخوك ، ولو قضى به عبدا لم يلزمها أن تحتجب عنه بنص القرآن .



                                                            (العاشرة) قال ابن دقيق العيد استدل بعض المالكية على قاعدة من قواعدهم ، وهو الحكم بين حكمين ، وذلك أن يأخذ الفرع شبها من أصول متعددة فيعطي أحكاما متعددة ، ولا تمحض لأحد الأصول ، وذلك أن الفراش مقتض لإلحاقه بزمعة ، والشبه البين مقتض لإلحاقه بعتبة فروعي الفراش في النسب ، وألحق بزمعة ، وروعي الشبه بأمر سودة بالاحتجاب منه فأعطي الفرع حكما بين حكمين ، ولم يمحض أمر الفراش فتثبت المحرمية بينه وبين سودة ، ولا [ روعي ] الشبه مطلقا فيلحق بعتبة ، وإلحاقه بكل منهما من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه قال ، ويعترض على هذا بأن صورة النزاع ماإذا دار الفرع بين أصلين شرعيين يقتضي الشرع إلحاقه بكل منهما من حيث النظر إليه ، وهنا لا يقتضي الشرع إلا الإلحاق بالفراش ، والشبه هنا غير [ ص: 130 ] مقتض للإلحاق شرعا فيحمل الأمر بالاحتجاب على الاحتياط لا على بيان وجوب حكم شرعي ، وليس فيه إلا ترك مباح بتقدير ثبوت المحرمية انتهى باختصار .



                                                            (الحادية عشرة) احتج به على أن الوطء بالزنا له حكم الوطء بالنكاح في حرمة المصاهرة لأن سودة أمرت بالاحتجاب فدل على أن وطء عتبة بالزنا له حكم الوطء بالنكاح ، وبهذا قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد ، وقال مالك في المشهور عنه والشافعي وأبو ثور وغيرهم لا أثر لوطء الزنا لعدم احترامه بل للزاني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها بل زاد الشافعي فجوز البنت المتولدة من مائه بالزنا قال النووي ، وهذا احتجاج باطل ، وعجيب ممن ذكره لأن هذا على تقدير كونه من الزنا فهو أجنبي من سودة لا يحل الظهور له سواء ألحق بالزاني أم لا فلا تعلق له بالمسألة المذكورة .



                                                            (الثانية عشرة) قال النووي : وفيه أن حكم الحاكم لا يحيل الأمر في الباطن فإذا حكم بشهادة شاهدي زور أو نحو ذلك لم يحل المحكوم به للمحكوم له قال وموضع الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم حكم به لعبد بن زمعة ، وأنه أخ له ، ولسودة ، واحتمل بسبب الشبه أن يكون من عتبة فلو كان الحكم يحيل الباطن لما أمرها بالاحتجاب ، والله أعلم .



                                                            (الثالثة عشرة) قوله (وللعاهر الحجر) قال النووي قال العلماء العاهر الزاني ، وعهر زنى ، وعهرت زنت ، والعهر الزنا ، ومعنى له الحجر أي له الخيبة ، ولا حق له في الولد ، وعادة العرب أن تقول له الحجر ، وبفيه الأثلب أي بفتح الهمزة ، وكسرها ، وإسكان الثاء المثلثة ، وفتح اللام بعدها باء موحدة ، وهو التراب ونحو ذلك ، ويريدون ليس له إلا الخيبة ، وقيل المراد بالحجر هنا أنه يرجم بالحجارة ، وهذا ضعيف لأنه ليس كل زان يرجم ، وإنما يرجم المحصن خاصة ، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد عنه ، والحديث إنما ورد في نفي الولد عنه .

                                                            (الرابعة عشرة) قوله (عن أحدهما أو كلاهما) كذا في أصلنا بالألف فيحتمل أن يكون على لغة من يجعل المثنى بالألف في حال ، ويحتمل أنه ليس معطوفا على قوله أحدهما بل هو مستأنف أي كلاهما يرويه فحذف الخبر للعلم به ، والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية