الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 494 ] فصل

«يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة، أن يفحص عن منافع جميع الموجودات. وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين، موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:

أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة. وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [الحج: 73] الآية؛ فإنا نرى أجساما جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا، أن هاهنا موجدا للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر، أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور، مخترع من قبل غيره ضرورة.

وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترع فله مخترع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترعا له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات. [ ص: 495 ] ولذلك كان واجبا على من أراد أن يعرف الله حق معرفته، أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [الأعراف: 185] وكذلك أيضا من تتبع معنى الحكمة في موجود موجود؛ أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به، كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليلا الشرع.

وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز، هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى وذلك أن الآيات في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على [ ص: 496 ] ثلاثة أنواع:

إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية.

وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع.

وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا.

فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى: ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [النبأ: 6-7]-إلى قوله- وجنات ألفافا [النبأ: 16] ومثل قوله تعالى: تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [الفرقان: 61] إلى قوله تعالى: أو أراد شكورا [الفرقان: 62] ومثل قوله تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه [عبس: 24] الآية. ومثل هذا في القرآن كثير.

وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق [الطارق: 5-6] ومثل قوله تعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [الغاشية: 17] الآية، ومثل قوله تعالى: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [الحج: 73] ومن هذا قوله تعالى حكاية [ ص: 497 ] عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.

فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة: 21] إلى قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [البقرة: 22] فإن قوله: الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء [البقرة: 22] تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى: وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون [يس: 33] وقوله: ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران: 191] وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى، يوجد فيها النوعان من الدلالة.

فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله [ ص: 498 ] تعالى الناس منها إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر، الإشارة بقوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم [الأعراف: 172] إلى قوله تعالى: بلى شهدنا [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده، طاعة الله في الإيمان به، وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [آل عمران: 18] ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه، هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء: 44].

فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص -وأعني [ ص: 499 ] بالخواص العلماء- وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع، على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء، فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة. وإذا كان هذا هكذا، فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها، أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعا موجودا، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى [ ص: 500 ] المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها، ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع، من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا، الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته».

التالي السابق


الخدمات العلمية