الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الإسلام وهموم الناس

أحمد عبادي

المبحث الثالث : سيرة السلف الصالح رحمهم الله

ومن السلف الصالح، الذين جاءت أفعالهم وسيرتهم، امتثالا للتوجيهات القرآنية والنبوية، بخصوص تبني هـموم الناس :

1-عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام، الإمام الركن:

قال لأبي جعفر المنصور: أنت راعي الله، والله تعالى فوقك، ومستوف منك، يوم توضع ( الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) (الأنبياء:47) .

قال عنه الإمام مالك، بن أنس الأصبحي [1] : (الأوزاعي إمام يقتدى ) [2] ) .. كانت له مواقف مشهورة، مع ملوك بني العباس، الأصلب قناة، والأصعب مراسا، عبد الله بن علي، وأبي جعفر المنصور.

يسأله الإمام الثوري، عن موقفه مع الأول قائلا: (حدثنا يا أبا عمرو، حديثك مع عبد الله بن علي... قال: نعم، لما قدم الشام، وقتل بني أمية، جلس يوما على سريره، وعبأ أصحابه أربعة أصناف، صنف معهم السيوف المسللة، وصنف معهم الجزرة، أظنها الأطبار (نوع من [ ص: 74 ] الفئوس) ، وصنف معهم الأعمدة، وصنف معهم الكافر كوب (مقارع) ، ثم بعث إلي، فلما صرت بالباب، أنزلوني، وأخذ اثنان بعضدي، وأدخلوني بين الصفوف، حتى أقاموني مقاما، يسمع منه كلامي، فسلمت، فقال: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير.. قال: ما تقول في دماء بني أمية ؟ فسأل مسألة رجل، يريد أن يقتل رجلا.. فقلت: قد كان بينك وبينهم عهود.. فقال: ويحك! اجعلني وإياهم، لا عهد لنا.. فأجهشت نفسي، وكرهت القتل، فذكرت مقامي، بين يدي الله عز وجل ، فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليك حرام.. فغضب، وانتفخت عيناه، وأوداجه.. فقال لي: ويحك! ولم ؟ قلت: ( قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحـل دم امـرئ مسـلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه ) [3] ، قال: ويحك! أو ليس لنا ديانة ؟ قلت: وكيف ذلك ؟ قال: أليس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوصى إلى علي ؟ قلت: لو أوصى إليه، ما حكم الحكمين.. فسكت، وقد اجتمع غضبا، فجعلت، أتوقع رأسي، تقع بين يدي، فقال بيده هـكذا -أومأ أن أخرجوه- فخرجت... [4] قال الذهبي معلقا على هـذا الخبر: (قلت: قد كان عبد الله بن علي، ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هـذا فالإمام الأوزاعي، [ ص: 75 ] يصدعه بمر الحق، كما ترى، لا كخلق من علماء السوء، الذين يحسنون للأمراء، ما يقتحمون به، من الظلم، والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا -قاتلهم الله- أو يسكتون، مع القدرة على بيان الحق ) [5] وأما عن موقفه، مع أبي جعفر المنصور ، في تبني هـموم المسلمين، والدفاع عن حقوقهم، وتذكير السلطان بواجباته، تجاه رعيته، التي استرعاه الله إياها، دونما خوف في الله لومة لائم، فحدثنا أبو نعيم الأصفهاني ، في حليته، يقول بعد ذكر سنده إلى هـذا الخبر: (لما خرج إبراهيم ومحمد، على أبي جعفر المنصور ، أراد أهل الثغور، أن يعينوه عليهما، فأبوا ذلك، فوقع في يد ملك الروم، الألوف من المسلمين الأسرى، وكان ملك الروم، يحب أن يفادي بهم، ويأبى أبو جعفر.. فكتب الأوزاعي، إلى أبي جعفر، كتابا أن:

( أما بعد، فإن الله تعالى، استرعاك أمر هـذه الأمة، لتكون فيها بالقسط قائما، وبنبيه صلى الله عليه وسلم في خفض الجناح، والرحمة، متشبها، فإن سائحة المشركين، غلبت عام أول، وقد عملت موطئهم حريم المسلمين، واستنزالهم العواتق، والذراري، من الحصون، وكان ذلك بذنوب العباد، وما عفا الله عنه أكثر.. فبذنوب العباد، استنزلت العواتق، والذراري، من المعاقل والحصون، لا يلقون لهم ناصرا، ولا عنهم مدافعا، كاشفات رءوسهن، وأقدامهن، فكان ذلك، بمرأى، ومسمع، وحيث ينظر الله إلى خلقه، وإعراضهم عنه، فليتق الله أمير المؤمنين، وليتبع بالمفاداة بهم، من [ ص: 76 ] الله سـبيلا... فإن الله تعـالى، قال لنبـيه: ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ) (النسـاء: 75) ..

والله يا أمـير المؤمـنين! ما لهم يومئذ من موقوف ولا ذمة، تؤدي خـراجا، إلا خاصة أموالهم، وقد بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني لأسمع بكاء الصبي خلفي في الصلاة، فأتجوز فيها، مخافة أن تفتن أمه ) ، فكيف بتخليتهم، يا أمير المؤمنين، في أيدي العدو، يمتهنونهم، ويتكشفون منهم، ما لا نسـتحله نحن، إلا بنـكاح ؟ وأنت راعي الله، والله تعالى فوقك، ومستوف منك، يوم توضع: ( الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسـبين ) (الأنبياء:47) .

قال أبو نعيم بسنده، إلى أبي سعيد الثعلبي : فلما وصل إليه كتابه، أمر بالفداء [6] توفي الأوزاعي رحمه الله، سنة 151هـ .

2- الإمام مالك بن أنس الأصبحي ، رحمه الله:

قال لهارون الرشيد : (كان عمر، ينفخ لهم النار، عام الرمادة، وقد رضي الناس منهم، دون هـذا ) .

قال القاضي عياض ، في : (ترتيب المدارك وتقريب المسالك) : (قال عتيق بن يعقوب : كان مالك، إذا دخل على الوالي وعظه، وحثه على مصالح المسلمين، ولقد دخل يوما، على هـارون الرشيد ، فحثه على مصالح المسلمين، فقال له: (لقد بلغني، أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، [ ص: 77 ] كان في فضله وقدمه، ينفخ لهم عام الرمادة النار، تحت القدور، حتى يخرج الدخان من لحيته، وقد رضي الناس منكم، دون هـذا... ) [7] توفي رضي الله عنه سنة 179هـ .

3- الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ، رحمه الله:

( القرآن كلام الله، غير مخلوق) .

ذرت فتنة الاعتزال، في الأمة بقرنها، مدعومة بسلاطين بني العباس: المأمون ، وخلفائه... وينفخ في جمرها، أئمة الاعتزال، فامتحن العلماء، وأذعن أكثرهم، وعمى بعضهم تقية، وقتل بعضهم، وصمد الإمام أحمد، صمودا، كانت الأمة لولاه، ستنحرف انحرافا قصيا، عن جادة دينها، اعتقادا وعملا، وقد كان يسع الإمام أحمد -كما وسع غيره- أن يعمي تقية، ولكنها القدوة والأمانة... وقد كان، رضي الله عنه ، يحمل في قلبه هـم الأمة كلها، وهم هـداية أفرادها جميعا .. (فعن أبي عيسى عبد الرحمن بن زادان ، قال: صلينا، وأبو عبد الله أحمد ابن حنبل، حاضر، فسمعته يقول: اللهم من كان على هـوى، أو على رأي، وهو يظن، أنه على الحق، وليس هـو على الحق، فرده إلى الحق، حتى لا يضل من هـذه الأمة أحد... [8] وقد لقي -رحمه الله- في سبيل الله، وأمته، بلاء شديدا.. (فعن ميمون بن الأصبع ، قال: كنت ببغداد ، فسمعت ضجة، فقلت: ما هـذا ؟ [ ص: 78 ] فقالوا: أحمد بن حنبل يمتحن.. فدخلت، فلما ضرب سوطا، قال: بسم الله.. فلما ضرب الثاني، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.. فلما ضرب الثالث، قال: القرآن كلام الله، غير مخلوق.. فلما ضرب الرابع، قال: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) .. فضرب تسعة وعشرين سوطا ) [9] وعن محمد بن أبي سمية ، قال: سمعت شاباص النائب، يقول: لقد ضربت أحمد بن حنبل، ثمانين سوطا، لو ضربتها فيلا لهدته [10] وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: قال لي أبي: (يا بني، لقد أعطيت المجهود من نفسي ) [11] هذا، وإن لقول الحق، مقتضيات، من صحة، وصفاء في العقيدة، وسعة في العلم، وقوة في الإيمان، وزهد في الدنيا، يؤدي إلى القناعة، وعدم مد العين، إلى ما متع الله به أزواجا منهم، زهرة الحياة الدنيا... وقد وقفنا عند الإمام، على الثلاثة الأولى، وعن الرابعة يحدثنا ابنه صالح فيقول: ربما رأيت أبي، يأخذ الكسر، من الخبز اليابس، فينفض الغبار عنها، ثم يصيرها في قصعة، ثم يصب عليها ماء، حتى تبتل، ثم يأكلها بالملح... [12] ويحدثنا عنها أيضا، النيسابوري، صاحب إسحاق بن إبراهيم، فيقول: قال لي الأمير: إذا جاءه إفطار أرنيه، قال: فجاءوا برغيف خبز وخيارة، فأريته الأمير، فقال: هـذا لا يجيبنا، إذا كان هـذا يقنعه [13] [ ص: 79 ]

وما كان الإمام أحمد ، رحمه الله، في هـذا مبتدعا، وإنما كان متأسيا، ( فعن المقدام بن معد يكرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ) [14] ( وعن عمران بن زيد المدني ، عن أبيه، قال: دخلنا على عائشة ، رضي الله عنها ، فقلنا: السلام عليك يا أمه! فقالت: وعليك السلام ؟ ثم بكت، فقلنا : ما بكاؤك يا أمه ؟ قالت: بلغني، أن الرجل منكم، يأكل من ألوان الطعام، حتى يلتمس لذلك دواء يمرئه، فذكرت نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فذاك الذي أبكاني، خرج من الدنيا، ولم يملأ بطنه، في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر، لم يشبع من الخبز، وإذا شبع من الخبز، لم يشبع من التمر، فذلك الذي أبكاني ) [15] ، وإن الوهن كل الوهن، إنما ينجم من الانشغال بما الله يكفيه.. وإنه من تفضيل طعام على طعام، ووجه على وجه، وثوب على ثوب، ومسكن على مسكن، تنجم الفتنة.. وقد أثر عن بعضهم أنه قال: لولا ثلاثة، ما وقع حيف، ولا استل سيف: طعام أسوغ من طعام، ووجه أصبح من وجه، وسلك [16] ألين من سلك ) .

توفي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، سنة 241هـ . [ ص: 80 ]

4 - شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، رحمه الله [17] :

ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي في صدري.. وسجني خلوة.. ونفيي سياحة.. وقتلي شهادة .

يقف رحمه الله، جبلا صامدا، في وجه التتر، ويلتحم بالجماهير المسلمة في دمشق ، متبنيا لقضاياها، ومدافعا عنها، وتلتف حوله ثقة به، ليسجلوا بذلك، مجتمعين ملحمـة جهـادية خالدة، قال الحـافـظ ابن كثير :

( وفي مستهل عام 700هـ ، وردت الأخبار إلى دمشق، بقصد التتر بلاد الشام، فمادت الأرض بالناس، وطاشت عقولهم، وألبابهم، وبدأوا يتهربون إلى مصر ، والبلدان الأخرى، والحصون المنيعة، مما كان بنجوة، عن معرة التتر، وغائلتهم، وبيعت الأمتعة، والثياب، والمحلات، بأرخص الأثمان... واستعد الشيخ ابن تيمية، لإلقاء المواعظ، والدروس، في الجامع، بنشاط بالغ، وحرض الناس على القتال، ونهاهم عن الإسراع في الفرار، وذم هـذه الخصلة، ورغبهم في إنفاق الأموال، في الذب عن المسلمين، وبلادهم، وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب، إذا أنفق في سبيل الله، كان خيرا، وأوجب جهاد التتر، في هـذه الكرة، وسكنت الأحوال بمجالسه المتتابعة في ذلك... فتوقف الناس، وسكن جأشهم، وخرج ابن تيمية، إلى نائب الشام في المرج، وكان مرابطا خارج دمشق، [ ص: 81 ] لمقاومة التتر، وسد سيولهم، فثبته وقوى جأشه، وطيب خاطره، ووعده بالنصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى : ( ... ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصـرنه الله إن الله لعفو غفور ) (الحج:60) .

وسأله النائب والأمراء، أن يركب على البريد، إلى مصر ، ويستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان قد وصل إلى الساحل، فلم يدركه، إلا وقد دخل القاهرة، وتفارط الحال، فاستثار غيرته، وقال له فيما قال: (لو قدر، أنكم لستم حكام الشام، ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف، وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم، وأنتم مسئولون عنهم )

وقال أيضا: (إن كنتم أعرضتم عن الشام، وحمايته، أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن ) .

وقوى الشيخ ابن تيمية ، جأش السلطان للخروج إلى الشام ، مرة أخرى، نتيجة الجهود المخلصة، التي بذلها في هـذا السبيل، وتوجهت العساكر إلى الشام للجهاد مع التتر، ولما سمع الناس بذلك، فرحوا أشد الفرح، بعد أن كانوا يئسوا، من أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم) [18] .

واستمر، رحمه الله مجاهدا في سبيل الله، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، منافحا عن شرعة الله، حتى سجن بسجن القلعة، الذي قضى فيه نحبه، وقد رافقه، أثناء فترة السجن هـذه، تلميذه البار، ابن القيم، رحمه الله.

توفي ابن تيمية، رحمه الله، سنة 728هـ . [ ص: 82 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية