الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1764 - مسألة : ولا تجوز وصية من لم يبلغ من الرجال والنساء أصلا .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف الناس في هذا - : فروينا من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه : أن عمر بن الخطاب أجاز لها وصية غلام لم يحتلم ببئر جشم ، قال عمرو بن سليم : فبعتها أنا بثلاثين ألف درهم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن ابن مسعود : أنه أجاز وصية الصبي ، وقال : من أصاب الحق أجزنا ، وروي - ولم يصح - عن أبان بن عثمان : أنه أجاز وصية جارية بنت تسع سنين بالثلث . [ ص: 376 ] وعن جابر الجعفي عن الشعبي : من أصاب الحق - من صغير أو كبير - أجزنا وصيته .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن سمعان عن الزهري : إذا عرف الصلاة جازت وصيته وإن لم يحتلم - الغلام والجارية سواء .

                                                                                                                                                                                          وصح عن شريح ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، وإبراهيم النخعي : إجازة وصية الصغيرين إذا أصابا الحق .

                                                                                                                                                                                          وقال الليث بن سعد كقول الزهري .

                                                                                                                                                                                          وأجاز مالك وصية من بلغ تسع سنين فصاعدا .

                                                                                                                                                                                          وقول آخر - صح عن عمر بن عبد العزيز : أن من لم يبلغ الحلم فإن وصيته تجوز في قرب الثلث ، ولا نرى أن تبلغ الثلث .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه .

                                                                                                                                                                                          وقول ثالث : قال القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري : وهو أنه إذا بلغ الصغيران سنا من وسط ما يحتلم له الغلمان : جازت وصيتهما .

                                                                                                                                                                                          وقول رابع : وهو أن وصية من لم يحتلم لا تجوز ، وكذلك المرأة ما لم تحتلم أو تحض - كما روينا من طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس : لا تجوز وصية الغلام حتى يحتلم - وصح هذا عن الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي أيضا - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما تحديد عبيد الله بن الحسن ببلوغ من هي وسط ما يحتلم لها الغلمان - ومنع عمر بن عبد العزيز من بلوغ الثلث ، وإجازته ما قرب من ذلك - وتخصيص مالك ابن تسع فصاعدا - : فأقوال لا متعلق لها بشيء أصلا ، وما نعلم أحدا حد ذلك قبل مالك .

                                                                                                                                                                                          ولعل بعض مقلديه يقول : صح أن { النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعائشة أم المؤمنين وهي بنت تسع سنين } ؟ [ ص: 377 ] فنقول له : نعم ، وصح أنه عليه الصلاة والسلام تزوجها وهي بنت ست سنين ، فأجيزوا وصية ابن ست سنين بذلك - .

                                                                                                                                                                                          وهذا كله لا مدخل له في الوصية أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما من أجاز وصية الصغيرين إذا أصابا الحق ، فإنهم احتجوا بقول الله تعالى : { وافعلوا الخير } .

                                                                                                                                                                                          قالوا : وهذا عموم ، وقال تعالى في المواريث : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وهذا عموم ، وبالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ { سألته المرأة عن الصغير أله حج ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ، ولك أجر }

                                                                                                                                                                                          ووجدناه يحض على الصلاة والصيام فالوصية كذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : السفيه ، والصغير ممنوعان من أموالهما في حياتهما ، ووصية السفيه : جائزة ، فالصغير كذلك ؟

                                                                                                                                                                                          وقالوا : هذا حكم عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم والرواية عن ابن عباس بخلاف ذلك لا تصح ، لأنها عن هالكين : إبراهيم بن أبي يحيى ، والحجاج بن أرطاة ، ومثل هذا لا يقال بالرأي - ما لهم شبهة غير ما ذكرنا - .

                                                                                                                                                                                          وكل ذلك لا متعلق لمالك ومن قلده بشيء منه ; لأنهم خصوا من دون التسع بلا ; برهان ، فخالفوا كل ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وكله لا حجة لهم في شيء منه - : أما قوله تعالى : ( { وافعلوا الخير } ) .

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى : ( { من بعد وصية يوصي بها أو دين } ) .

                                                                                                                                                                                          فإن من لم يبلغ غير مخاطب بشيء من الشرائع ، لا بفرض ولا بتحريم ولا بندب ، ولا داخلا في هذا الخطاب ، لكن الله تعالى تفضل عليه بقبول أعماله التي هي أعمال البر ببدنه دون أن يلزمه ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القلم مرفوع عن الصبي حتى يبلغ فصح أنه غير مخاطب ، فبطل التعليق بالآيتين المذكورتين . [ ص: 378 ] وأما قوله عليه الصلاة والسلام في الصغير له حج ؟ فنعم ، هو حق ، وليس في ذلك إطلاقه على التقرب بالمال والصدقة به ، لا في حياته ولا في وصيته بعد وفاته ، فبطل تعلقهم بهذا الخبر - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          والقياس باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنهم لم يقيسوا الصدقة في الحياة من الصغير على الحج منه ، فقياس الوصية بالمال على الصدقة بالمال أولى أن يكون لو كان القياس حقا من قياس الوصية على الحج والصلاة .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إن من لم يبلغ يحض على الصلاة ، والصيام فكذلك الوصية - فباطل أيضا لأنه قياس فاسد كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إن الصغير ، والسفيه ممنوعان من مالهما ، ووصية السفيه جائزة فكذلك الصغير - فهذا من أفسد ما شغبوا به ، لأننا لا نساعدهم على أن مسلما يعقل يكون سفيها أصلا ، حاش لله من ذلك ، إنما السفيه الكافر ، أو المجنون الذي لا يميز - لكن نقول لهم : إن الصغير والأحمق الذي لا يميز : ممنوعان من مالهما ، ووصية الأحمق الذي لا يميز لا تجوز ، فالصغير كذلك - فهذا قياس أصح من قياسهم ; لأن القضية الأولى متفق عليها - .

                                                                                                                                                                                          وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إنه فعل عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، ومثله لا يقال بالرأي ؟ فلا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ثم إنها لا تصح عن عمر ، ولا عن ابن مسعود ، لأن أم عمرو بن سليم مجهولة ، وعمرو بن سليم لم يدرك عمر ، ولا يدرى من رواه عن ابن مسعود ، وقد خالفهما ابن عباس ، والرواية عنهم كلهم في ذلك لا تصح .

                                                                                                                                                                                          وكم قضية خالفوا فيها عمر بن الخطاب لا يعرف له فيها مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، فبطل كل ما شغبوا به - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فلما بطل كل ما احتجوا به وجدنا الله تعالى يقول : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } [ ص: 379 ] فصح بنص القرآن أن المجنون ، والصغير : ممنوعان من أموالهما حتى يعقل الأحمق ، ويبلغ الصغير - فصح أنه لا يجوز لهما حكم في أموالهما أصلا ، وتخصيص الوصية في ذلك خطأ .

                                                                                                                                                                                          وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { رفع القلم عن ثلاثة } فذكر فيهم الصغير حتى يبلغ - فصح أنه غير مخاطب - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية