الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
ثانيا : السـبب التربـوي

كثيرا ما يصيبنا الذهول عن خطورة المسألة التربوية، وخصوصا الجانب التأسيسي منها، فطفل اليوم، هـو مسئول الغد، ومن هـنا جسامة مسئولية، دوائر التربية، التي يتقلب فيها النشء، بدءا بالأسرة، ومرورا بالمدرسة، فالشارع، وانتهاء بالدولة المؤطرة، لقنوات التربية المختلفة، من [ ص: 102 ] وسائل إعلام متنوعة، على تعدد محتوياتها، وحمولتها [1] ، وعلاقات اجتماعية، واقتصادية، وممارسة سياسية.

ولعل أهم هـذه الدوائر على الإطلاق، هـي (دائرة الأسرة) ، التي أشار إلى خطورتها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه ) كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هـل تحسون فيها من جدعاء، قال أبو هـريرة -وهو راوي الحديث- واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: ( فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30)



[2] فالأسرة تمثل النواة الأولى، لتخريج الإنسان الصالح، إلا أننا نلحظ أنها في أوطاننا، معطلة، مهملة، من كل توجيه، إلا ما ندر جدا، فانكمشت وظيفتها في الإيواء، والإطعام، والمداواة، والكسوة، والدفع إلى المدرسة، في أحسن الحالات، على وجود تربية عكسية، تدرب بصرامة على الخنوع، وقبول القمع والاستبداد، واتهام النفس في كل حال، بحق، وبغير حق، فالأب يستبد بالجميع، والأم بعده، والذكور بالإناث، ثم الكبير فالكبير.. وحتى مناهج التعليم، ومنذ الكتاب، [ ص: 103 ] تعطى المشـروعية العلـيا فيها، للعـنف والرعـب، وليس للتفهيم، والأخذ بالحسنى.

أضف إلى ذلك، انحسارا في الجانب التنظيري، والتخطيطي، الذي من المفروض أن تضطلع به الدوائر المختصة في الأمة، والتي ترصد لها الميزانيات -قلت أم كثرت- من أجل هـذا الغرض، يمر ذا إلى الشارع، فيؤطره بأسلاك الخوف، ونزعات استعمال القوة، بكل أصنافها، من محسوبية، وجاه، ومال، وكيد، وغيرها، مما يتجلى في كل أنماط العلاقات السائدة في المجتمع، أفقية وعمودية، الأمر الذي يجعله عقيما، لا ينتج الأحرار المتميزين، الذين يعرفون المعروف، وينكرون المنكر، فيفضي ذلك، إلى اندحار المجتمع، وسيوخه في أوحال العبودية، إذ حين يغيب هـذا الصنف من الناس، الذي يستدرج بين جنبيه دين الأمم، ونسغها الحضاري، وهويتها، وذاكرتها، يحصل الانزلاق نحو السراب، وتصـبح هـذه الأمم أحـاديث، وتمزـق كل ممزق، يقول تعالى: ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) (هود:116-117) .

فضروري إذن، أن تبلور وسائل تربوية، تربي الناس جميعا، بمختلف مستوياتهم العمرية، والاجتماعية، والعملية، وتوظف كل القنوات المتاحة، من إعلام، وسياسة، ومنتديات ثقافية، وممارسات اقتصادية، ومؤسسات اجتماعية، في سبيل ذلك، وهي قنوات، ينبغي أن ترشد، [ ص: 104 ] وأن يضبط التعامل معها، استراتيجية مستوعبة، يكون وضعها بعد دراسة، وبحث مستوفيين، حتى تعمل هـذه القنوات، بتناسق، وتكامل، وليس بتنافر، وتعارض، لأن هـهنا أخطر منطلقات الحياة، في أمة من الأمم، وهو منطلق التربية، والتنشئة، والتوجيه، يقول الرئيس المسلم، علي عزت بيغوفيتش :

( إن القرآن، يشتمل على مبدأ، وهو مبدأ مشترك للأديان الكبرى جمعاء، بأن المجتمع، إنما يمكن تنظيمه، عن طريق الإنسان، وبأنه ليس باستطاعة القوانين -وحتى الشرائع السماوية- إقامة مجتمع مثالي، بين الناس الفاسدين خلقيا... إن إصلاح المجتمع، إنما يمكن، أن يقوم على أساس الإيمان بالله، والتسليم بحكمه، وعن طريق تربية الإنسان، فعلينا أن نسلك هـذه السبيل الوحيدة، المؤدية إلى الهدف المنشود) [3] بهذا فقط، يمكن أن نضحى قادرين، على تعليم الناس الحرية، بمفهومها الإسلامي [4] ، وتعليمهم قيمها، وفضيلة الدفاع عنها، والموت [ ص: 105 ] في سبيلها، وبهذا فقط، يمكن أن تصبح تربيتنا، قادرة على تخريج أحرار، يعيشون هـذه الحرية -المنحة الإلهية- ويحترمونها، وتصبح تربيتنا أيضا، قادرة، على تعليم الناس، أنهم إخوة، وأن التكافل بينهم، واجب، مأجورون عليه، من لدن الله، وإلا فإن الخطاب التعليمي المحدث، عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتبني هـموم الناس، المقتصر على التحديث، دون المرور إلى التربية، لن يجدي كثيرا، لأنه لن يجد النفوس، التي تحمله، وتحيا به، وله.

التالي السابق


الخدمات العلمية