الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
رابعا : السـبب الفقـهي

وذلك أن فقه المشاركة في أمتنا، لم يأخذ حظه الكافي، من التنظير والبسط، شأن فقه المجتمع، فتراثنا الفقهي، يشهد بأن الأول، كان الاهتمام به ضافيا، على حساب الثاني، مما جعل البعد التنظيمي للمشاركة، في هـموم المجتمع، وتحمل مسؤوياته، يكون ضامرا، الأمر الذي ترك هـذه الممارسة، لأريحية الأفراد، دون أن يضبطها ضابط، من تنظيم وتقنين، يجعلها أكثر فاعلية واستمرارية.. وهذا أمر، وراءه أسباب متعددة، منها:

1 - أن المجتمع المسلم الأول، كان بسيطا في تركيبته، فقد كان الناس قبل الإسلام، ينتظمون في أسرهم، وعشائرهم، وقبائلهم، وهي مؤسسات، تقوم على أعراف قديمة، مستقرة، مألوفة، ترضع مع حليب الأمهات، وتتنفس مع الهواء، فلا يستوي الفرد، إلا وقد تعلمها مع [ ص: 112 ] المشي، والكلام، وانضبط لها، كما ينضبط لقوانين الجاذبية، والنمو، بل أكثر من هـذا، فالذين انفلتوا من هـذا النظام، معلومون، معروفون باسم الصعاليك، ولا يزال بعض أعيانهم، معروفين عند الأمة إلى الآن.

من هـنا، فإن الضبط المباشر، الذي جاء في التشريع الإسلامي، لهذه المؤسسات، كان كافيا، ولم يتم بالتالي، تلقي الإشارات الكثيرة، الموجودة، في الكتاب والسنة، والتي تؤصل، لبلورة المجتمع، والدولة، من مختلف التوجيهات، كالأمر بالشورى، والحض على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتكافل، والانتصار، على البغي...الخ، وهي توجيهات، تحتاج إلى هـيئات، وقوانين، من أجل تنزيلها، على واقع الناس، والحفـاظ عليها، بل وتنميتها، ممـا لم يكد، يفعـل منه شيء، ذو بال.

2 - الاعتماد على البعد العقيدي في النفوس، أزهد المسلمين في ضبط المؤسسات، وبلورة فقه خاص لها، يستنبط من الأحكام، التي تؤطرها، فاحتلت الثقة مكانا، أكبر مما ينبغي، فلما ضعف الوازع العقيدي، وكثرت الكوارث، طفت الأزمة على السطح، وبحدة كبيرة، مما جعل المسلمين، يقبلون في العصر الحديث، كثيرا من القوانين، والتنظيمات، الدخيلة عليهم، لسد الفراغ، الذي تركه قصورهم، وقعودهم، عن الاجتهاد، لبلورة فقه المجتمع، ومختلف مؤسساته:

أتاني هـواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا

3 - شهد عهد الخلافة الراشدة، تطورا كبيرا، في مؤسسات المجتمع الإسلامي، وفي فقهها، فكتاب عمر لأبي موسى الأشعري ، رضي الله عنهما ، في القضاء -مثلا- شاهد على ذلك، إذ فيه توجيهات إلى [ ص: 113 ] الفهم، والاستشارة، كما فيه، دعم وتأصيل، للمؤسسة القضائية [1] ، التي كانت مؤسسة مجتمعية محضة، مستقلة عن الدولة، قائمة بذاتها، وماتحة - مستقية - مباشرة، من المرجعية العليا للأمة، أقصد القرآن والسنة، مضافا إلى ذلك، اجتهاد القضاة وفهمهم، وهو ما ألح عليه عمر رضي الله عنه ، في كتابه إلى أبي موسى ، السالف الذكر.

وقد شهد عمر ، رضي الله عنه ، أيضا، اقتباس نظام الدواوين، كما شهد ضبط، مؤسسة الجند، وتنظيمها، فقد بدأ عمر فعلا، ببلورة فقه خاص بها، من ذلك على سبيل المثال: جعله المدة القصوى، التي يبقاها الجندي، بعيدا عن أهله، هـي أربعة أشـهر، بناء على سـؤال سأله ابنـته أم المؤمنين حفصة ، رضي الله عنها ، عن صبر المرأة على زوجها، حيث أجابته، بأن المرأة، لا تصبر على زوجها، أكثر من أربعة أشهر.

غير أن انحرافا كبيرا، في هـذا المسار، يسجل بعد تقلص ظل الرشد، عن الدولة الإسلامية، فقد طغا على الانشغال بالمجتمع، وقضاياه، انشغال المسئولين بإخماد الثورات، والتمكين للدولة القائمة، على أنقاض دولة، وتتبع بقايا الدولة المسقطة وجذورها، وبناء القصور والهيبة، وجمع الخراج، والسقوط في وهاد، مشاريع، وهمية منحرفة، كسقوط دولة المأمون في فخ الاعتزال، والترويج له، وما أعقب ذلك من فتنة وجهود لإخمادها، ثم انشغال جهاز الدولة من الداخل بالمؤامرات، والمؤامرات المضادة، كمؤامرة البرامكة، والبويهيين، والسلاجقة، والانشغال، بفتنة قيام الدولة الفاطمية، في مصر .. وحين تمزقت الدولة العباسية، وترهلت الدولة الفاطمية، جاء دور المماليك، وهلم جرا. [ ص: 114 ]

نفس الشأن في المغرب، حيث كان الأمويون في الأندلس ، إلى حين عهد المؤامرات، فالمؤامرات المضادة، بين ملوك الطوائف، ثم انطفاء الجذوة، والدول المتعاقبة في المغرب الأقصى، وإفريقيا بشكل عام.

وباختصار، لم يكن، هـم المسئولين، هـو الاشتغال بالمجتمع، وإنما الاشتغال بالدولة، أو لنقل (بالذات) ، وأسلم المجتمع إلى نفسه، بخلاف الشأن، حين كان الرشد، معانقا للدولة، فقد كان الاهتمام (بمجال التشريع، وتأصيل الشريعة الإسلامية، وتنظيم الشورى، وإعلان قراراتها، والتخطيط، والإحصاء، والرقابة، ووضع السياسات، التي تراقب معاملات المجتمع، وتوجه المناشط الاقتصادية فيه ) [2] ليس هـذا، يعني أن الدول الإسلامية، كان تاريخها، مجردا من الوضاءة والإشراق، وإن ركزنا هـهنا، على جانـب له صـلة بموضوعنا، وإلا فلا يخفى عطاء المسلمين، خلال التاريخ، وهذا أمر لا ينكر، وكان يمكن أن يكون أحسن، لولا ما ذكرنا، وأمور أخرى، لا يتسع المقام لذكرها.

وبعد عهد الخلافة الراشدة، أصبحت جهود الفقهاء، منصبة على تطوير فقه الأفراد وتفصيله، لأن الدولة انتهجت بعد الفترة الراشدة، نهجا تسلطيا، غير شوري، محيدا لعموم المسلمين، عن تحمل مسئولياتهم، في النصح والتسيير.. وإن التسيير، لعبء ينوء بالعصبة أولي القوة... فبرز أنموذج للمواطن الصالح، بعيد كل البعد عن الأنموذج القرآني، فأصلح الناس أنآهم، عن تحمل المسئوليات!! وأبعدهم عن [ ص: 115 ] الأمر، بالمعروف والنهي عن المنكر!! وبكلمة مختصرة: صار أصلح الناس، أكثرهم انحسارا، وإقبالا على خويصة نفسه، وهذا تجانف صارخ عن قيم الإسلام، الذي جعل هـذه الأمة، خير أمة أخرجت للناس، لأنها أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [3] فلما ساد هـذا الوضع، بعد مقاومة، أطيح فيها برءوس خيرة، من المؤمنين، كالحسين بن علي ، رضي الله عنهما ، وعبد الله بن الزبير ، رضي الله عنهما ، وسعيد بن جبير رحمه الله، وغيرهم... أسلم الأمراء، لأنفسهم، ولغرائزهم، وأهوائهم، أسلموا لسكرة السلطان، فتسلطوا على المسلمين، عامتهم وخاصتهم... فنشأ ما يسمى بفقهاء السلطان والبلاط، يفتون تحت الضغط والسورة، ضغط السلطان، وسورة المال، لذا وجدنا علماء السلف، يهربون مما قد يؤدي إلى هـذا الوضع، فالإمام مالك أبى وقال: (العلم يؤتى إليه ولا يأتي ) [4] . وقال لرسول المهدي، حين طلب منه، أن يرافقه: (أقرئ أمير المؤمنين السلام، وقل له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) [5] والإمام سفيان الثوري أبى، وفر ليجاور الكعبة ، وكان يلوم شريكا القاضي ، على توليه القضاء، بل كف عن مكالمته، وقال له قولته [ ص: 116 ] المشهورة: (والله، لا يراني الله أكلمك، أو تترك ما أنت فيه )

[6] ، يقصد القضاء.

نشأ إذن فقه المجتمع ومؤسساته، بعيدا عن المجتمع، وانطلاقا من الرأي الواحد، والفهم الواحد، فقه الدولة، وفهم الدولة، فلم يبرد ويشحذ بالمناظرات والحوارات والرسائل، شأن فقه الأفراد (فقه العبادات بشكل عام ) ، إذ لم يكن، هـم التنظير للحياة في المجتمع، والممارسات بشتى أنواعها، التي تجري فيه، وهم استنباط الأحكام الخاصة بذلك، هـم المجتمع، وفقهائه، بل بقي هـم الدولة،وفقهائها فقط.

وهذا سبب هـام، من أسباب فقر هـذا الفقه، وضموره، وقلة مصداقية ما هـو موجود منه، مما ينبغي، أن يتجاوز، ويستدرك، وإنني لأميل إلى الاعتقاد بأن هـذا التجاوز، وهذا الاستدراك، لا يمكن إطلاقا، أن يتم خارج المعترك السياسي، وخارج إطـار تحمـل أمانات، ومسـئوليات، حقيقـية -قلت أم كثرت- من مسئوليات الأمة، من قبل مؤمنين بهذا الدين، معتقدين بصلاحية شريعته، لتأطير حياة الناس، في كل مصر وعصر، بل أكثر من ذلك معتقدين، بوجوب تأطير حياة الناس بشريعة الله، وإلا فلن تعدو الاجتهادات، أن تكون نظرية علوية، مطلقة، متجانفة عن الإشكالات الحقيقية، الموجودة في المجتمعات المشخصة والعينية، التي تحتاج إلى اجتهادات خاصة بها.. وهي اجتهادات لا غرو، سـوف تـكون عقب سير في الأرض، ونظـر في تجـارب الآخـرين، واسـتفادة منها. [ ص: 117 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية