الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه السادس عشر

فيقال: الوجه السادس عشر: أن يقال: ابن سينا يثبت علمه بأعيان الباقيات مع كثرتها، كما سنذكر لفظه إن شاء الله. وما ذكره من الحجة على نفي علمه بالمتغيرات، مثل كونه إما متقوم وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة.

وقوله: تكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره، ونحو ذلك -يلزم من العلم بأعيان الباقيات وأنواع المتغيرات، كما يلزم في المتغيرات، وإنما يختص بالمتغيرات بحدوث شيء آخر، وذاك ليس عنده ما ينفيه بخصوصه، فإنه يجوز في القديم أن تحله الحوادث، وإنما منع حلول الحوادث به لكونه يمنع قيام الصفات، أو أن يقول بما ذكر عن أرسطو من أن ذلك يوجب تعبه وكلاله، وكل ذلك فضيحة من الفضائح، ما يظن بأضعف الناس عقلا أن يقول بمثل ذلك.

ولولا أن هذا نقل أصحابهم عنهم في كتبهم المتواترة عنهم عندهم، لاستبعد الإنسان أن يقول معروف بالعقل مثل هذا الهذيان.

وهذه ألفاظ ابن سينا في الإشارات بعد أن قرر بطلان قول من يقول باتحاد العاقل والمعقول: فيظهر لك من هذا أن كل [ ص: 34 ] ما يعقل بأنه ذات موجودة، تتقرر فيها القضايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر. قال: تنبيه: الصورة العقلية قد يجوز، بوجه ما، أن تستفاد من الصور الخارجية. مثلا كما تستفيد صورة السماء من السماء. وقد يجوز أن تسبق الصورة الأولى إلى القوة العاقلة، ثم يصير لها وجود من خارج مثلما تعقل شكلا ثم تجعله موجودا. ويجب أن يكون بما يعقل واجب الوجود من الكل على الوجه الثاني.

ثم قال: تنبيه: كل واحد من الوجهين قد يجوز أن يحصل من سبب عقلي متصور لوجود الصورة في الأعيان أو غير موجودها بعد، في جوهر قابل للصور المعقولة. ويجوز أن يكون للجوهر العقلي من ذاته لا من غيره. ولولا ذلك لذهبت العقول المفارقة إلى غير النهاية. وواجب الوجود يجب أن يكون له ذلك من ذاته. [ ص: 35 ]

قلت: فقد بين أن علم الرب هو من نفسه لا من غيره، وأن علمه بالمعقولات ليس مستفادا بها بل علمه بها سبب لوجودها، وحينئذ فلا يكون علمه مفتقرا إلى معلومه، بل معلومه مفتقرا إلى علمه، سواء كان المعلوم متغيرا أو غير متغير.

ثم قال: إشارة: واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق، ويعقل ما بعده، من حيث هو علة لما بعده ومنه وجوده، ويعقل سائر الأشياء من حيث حدثها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا.

ثم قال: إشارة: إدراك الأول للأشياء من ذاته في ذاته، هو أفضل أنحاء كون الشيء مدركا ومدركا، ويتلوه إدراك الجواهر العقلية اللازمة للأول بإشراق الأول، ولما بعده منه من ذاته، وبعدهما الإدراكات النفسانية التي هي نقش ورسم، عن طابع عقلي متبدد المبادئ والمناسب.

ثم قال: وهم وتنبيه: ولعلك تقول: إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل، ولا بعضها مع بعض، لما ذكرت. ثم سلمت أن [ ص: 36 ] الواجب الوجود يعقل كل شيء، فليس واحدا حقا، بل هناك كثرة فنقول: إنه لما كان تعقل ذاته بذاته، لم يلزم قيوميته عقلا بذاته لذاته أن يعقل الكثرة، جاءت الكثرة لازمة متأخرة، لا داخلة في الذات مقومة بها، وجاءت أيضا على ترتيب وكثرة اللوازم من الذات مباينة، أو غير مباينة، لا تثلم الوحدة. والأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية، وكثرة سلوب، وبسبب ذلك كثرة أسماء، لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته.

قلت: فقال: هذا الكلام صريح في ثبوت صفات الله قائمة به ليست إضافية ولا سلوب، كما قال: تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب.

وهذا مما اعترف به الشارحون لكلامه، المنتصرون له وغير المنتصرين.

التالي السابق


الخدمات العلمية