الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 521 ] القول في تأويل قوله ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : " وما قدروا الله حق قدره " وما أجلوا الله حق إجلاله ، ولا عظموه حق تعظيمه " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " يقول : حين قالوا : لم ينزل الله على آدمي كتابا ولا وحيا .

واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " وفي تأويل ذلك .

فقال بعضهم : كان قائل ذلك رجلا من اليهود .

ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل .

فقال بعضهم : كان اسمه : مالك بن الصيف .

وقال بعضهم : كان اسمه فنحاص .

واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قال ذلك .

ذكر من قال : كان قائل ذلك : مالك بن الصيف .

13535 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ وكان حبرا سمينا ، فغضب فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ! ولا موسى ! فقال : [ ص: 522 ] والله ما أنزل الله على بشر من شيء ! فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى " الآية .

13536 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " قال : نزلت في مالك بن الصيف ، كان من قريظة ، من أحبار يهود ، " قل " يا محمد " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس " الآية .

ذكر من قال : نزلت في فنحاص اليهودي .

13537 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " قال : قال فنحاص اليهودي : ما أنزل الله على محمد من شيء !

وقال آخرون : بل عنى بذلك جماعة من اليهود ، سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات مثل آيات موسى .

ذكر من قال ذلك :

13538 - حدثنا هناد قال : حدثنا يونس قال : حدثنا أبو معشر المدني ، عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من يهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محتب ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ألا تأتينا بكتاب من السماء ، كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله ؟ فأنزل الله : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ، الآية [ سورة النساء : 153 ] . فجثا رجل من يهود فقال : ما أنزل الله عليك [ ص: 523 ] ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا ! فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره " . قال محمد بن كعب : ما علموا كيف الله " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا " فحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبوته ، وجعل يقول : " ولا على أحد " .

13539 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " إلى قوله : " في خوضهم يلعبون " هم اليهود والنصارى ، قوم آتاهم الله علما فلم يقتدوا به ، ولم يأخذوا به ، ولم يعملوا به ، فذمهم الله في عملهم ذلك . ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : إن من أكثر ما أنا مخاصم به غدا أن يقال : يا أبا الدرداء ، قد علمت ، فماذا عملت فيما علمت ؟

13540 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " يعني من بني إسرائيل ، قالت اليهود : يا محمد ، أنزل الله عليك كتابا ؟ قال : نعم ! قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ! قال : فأنزل الله : " قل " يا محمد " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس " إلى قوله : " ولا آباؤكم " قال : الله أنزله .

وقال آخرون : هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا : " ما أنزل الله على بشر من شيء " . [ ص: 524 ]

ذكر من قال ذلك :

13541 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير : إنه سمع مجاهدا يقول : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " قالها مشركو قريش . قال : وقوله : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) ، قال : هم يهود ، الذين يبدونها ويخفون كثيرا . قال : وقوله : " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " قال : هذه للمسلمين .

13542 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وما قدروا الله حق قدره " قال : هم الكفار ، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم ، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير ، فقد قدر الله حق قدره . ومن لم يؤمن بذلك ، فلم يقدر الله حق قدره .

13543 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما قدروا الله حق قدره " يقول : مشركو قريش .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : عنى بقوله " وما قدروا الله حق قدره " مشركو قريش . وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم ، أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية ، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب ، وليس ذلك مما تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود : الإقرار [ ص: 525 ] بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود . وإذا لم يأت بما روي من الخبر ، بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود ، خبر صحيح متصل السند ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع ، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان وكان قوله : " وما قدروا الله حق قدره " موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول ، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل .

ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبرا عن اليهود ، وجدوا قوله " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة ، فقرءوه على وجه الخطاب لهم : تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ، فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم ، إذ كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم . وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل ، لما وصفت قبل من أن قوله : " وما قدروا الله حق قدره " في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل ، فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم .

والأصوب من القراءة في قوله : ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) ، أن يكون بالياء لا بالتاء ، على معنى : أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ، ويكون الخطاب بقوله : " قل من أنزل الكتاب " لمشركي قريش . وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك ، وكذلك كان يقرأ .

13544 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا [ ص: 526 ] حماد ، عن أيوب ، عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف : ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية