الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 167 ] يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا

انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى قوله ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيرا وإنذارا ، فالكلام استئناف ابتدائي ، والمناسبة ما علمت ، ولا يحسن لفظ ( يوم ) للتعلق بما قبله من قوله وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا على أن يكون تخلصا من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل ، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافا ابتدائيا ، ففتحة يوم إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية ، وهو فعل اذكر فيكون يوم هنا اسم زمان مفعولا للفعل المقدر ، وليس ظرفا .

والفاء في قوله فمن أوتي للتفريع ; لأن فعل اذكر المقدر يقتضي أمرا عظيما مجملا فوقع تفضيله بذكر الفاء ، وما بعدها ، فإن التفصيل يتفرع على الإجمال .

وإما أن تكون فتحته فتحة بناء لإضافته اسم الزمان إلى الفعل ، وهو إما في محل رفع بالابتداء ، وخبره جملة فمن أوتي كتابه بيمينه ، وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش ، وقد حكى ابن هشام عن ابن برهان أن الفاء تزداد في الخبر عند جميع البصريين ما عدا سيبويه ، وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده ، أعني قوله فمن أوتي كتابه بيمينه

[ ص: 168 ] إلى قوله وأضل سبيلا وتقدير المحذوف : تتفاوت الناس وتتغابن ، وبين تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله فمن أوتي كتابه إلخ .

والإمام : ما يؤتم به ، أي يعمل على مثل عمله أو سيرته . والمراد به هنا مبين الدين من دين حق للأمم المؤمنة ، ومن دين كفر ، وباطل للأمم الضالة .

ومعنى دعاء الناس أن يدعى يا أمة فلان ويا أتباع فلان ، مثل : يا أمة محمد ، يا أمة موسى ، يا أمة عيسى ، ومثل : يا أمة زرادشت ، ويا أمة برهما ، ويا أمة بوذا ، ومثل : يا عبدة العزى ، يا عبدة بعل ، يا عبدة نسر .

والباء لتعدية فعل ندعو لأنه يتعدى بالباء ، يقال : دعوته بكنيته وتداعوا بشعارهم .

وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجل بالمسرة ; لاتباع الهداة وبالمساءة لاتباع الغواة ; لأنهم إذا دعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم .

وفرع على هذا قوله فمن أوتي كتابه بيمينه تفريع التفصيل لما أجمله قوله : ( ندعو كل أناس بإمامهم ) . أي ومن الناس من يؤتى كتابه ، أي كتاب أعماله بيمينه .

وقوله فمن أوتي عطف على مقدر يقتضيه قوله : ( ندعو كل أناس بإمامهم ) . أي فيؤتون كتبهم ، أي صحائف أعمالهم .

وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين ، وتلك علامة عناية بالمأخوذ; لأن اليمين يأخذ بها من يعزم عملا عظيما قال تعالى لأخذنا منه باليمين ، وقال النبيء صلى الله عليه وسلم : من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمن بيمينه وكلتا يديه يمين . . . إلخ ، وقال الشماخ :

[ ص: 169 ]

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

وأما أهل الشقاوة فيؤتون كتبهم بشمائلهم ، كما في آية الحاقة وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه .

والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب ( أما ) ; للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرءون كتابهم ; لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخير والجزاء عليه مسرة لهم ونعيما بتذكر ومعرفة ثوابه ، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة ، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم ، فتوفر الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة .

وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا ، وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ; لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم ، فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازا مرسلا ، ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده .

والفتيل : شبه الخيط تكون في شق النواة ، وتقدم في قوله تعالى بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا في سورة النساء ، وهو مثل للشيء الحقير التافه ، أي لا ينقصون شيئا ، ولو قليلا جدا .

وعطف ومن كان في هذه أعمى عطف القسيم على قسيمه فهو في حيز ( أما ) التفصيلية ، والتقدير : وأما ومن كان في هذه أعمى ولما كان القسيم المعطوف عليه هم من أوتوا كتابهم باليمين علم أن المعطوف بضد ذلك يؤتى [ ص: 170 ] كتابه بالشمال فاستغني عن ذكر ذلك ، وأتي له بصلة أخرى وهي كونه أعمى حكما آخر من أحواله الفظيعة في ذلك اليوم .

والإشارة ب هذه إلى معلوم من المقام وهو الدنيا ، وله نظائر في القرآن ، والمراد بالعمى في الدنيا الضلالة في الدين ، أطلق عليها العمى على وجه الاستعارة .

والمراد بالعمى في الآخرة ما ينشأ عن العمى من الحيرة واضطراب البال ، فالأعمى أيضا مستعار لمشابه الأعمى بإحدى العلاقتين .

ووصف أعمى في المرتين مراد به مجرد الوصف لا التفضيل ، ولما كان وجه الشبه في أحوال الكافر في الآخرة أقوى منه في حاله في الدنيا أشير إلى شدة تلك الحالة بقوله وأضل سبيلا القائم مقام صيغة التفضيل في العمى لكون وصف أعمى غير قابل لأن يصاغ بصيغة التفضيل ; لأنه جاء بصيغة التفضيل في حال الوصف .

وعدل عن لفظ أشد ونحوه ما يتوسل به إلى التفضيل عند تعذر اشتقاق صيغة ( أفعل ) ليتأتى ذكر السبيل ، لما في الضلال عن السبيل من تمثيل حال العمى وإيضاحه ; لأن ضلال فاقد البصر عن الطريق فيحال السير أشد وقعا في الإضرار منه ، وهو قابع بمكانه ، فعدل عن اللفظ الوجيز إلى التركيب المطنب لما في الإطناب من تمثيل الحال ، وإيضاحه وإفظاعه ، وهو إطناب بديع ، وقد أفيد بذلك أن عماه في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل ، ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره ، فالمعنى : وأضل سبيلا منه في الدنيا .

ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد : أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خليا عن لحاق الألم به ، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاص منه ، وهو مقارن للعذاب الدائم ، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته .

التالي السابق


الخدمات العلمية