الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ( 28 ) لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 29 ) )

قد تقدم في رواية النسائي ، عن ابن عباس : أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب ، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص وكما في حديث الشعبي ، عن أبي بردة ، عن [ ص: 32 ] أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " . أخرجاه في الصحيحين

ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك ، وعتبة بن أبي حكيم ، وغيرهما ، وهو اختيار ابن جرير .

وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ) أي : ضعفين ، وزادهم : ( ويجعل لكم نورا تمشون به ) يعني : هدى يتبصر به من العمى والجهالة ، ويغفر لكم . فضلهم بالنور والمغفرة . ورواه ابن جرير عنه .

وهذه الآية كقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ) [ الأنفال : 29 ] .

وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حبرا من أحبار يهود : كم أفضل ما ضعفت لكم حسنة ؟ قال : كفل ثلاثمائة وخمسون حسنة . قال : فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين . [ ثم ] ذكر سعيد قول الله ، عز وجل : ( يؤتكم كفلين من رحمته ) قال سعيد : والكفلان في الجمعة مثل ذلك . رواه ابن جرير

ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود . ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت النصارى . ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذي عملتم . فغضبت النصارى ، واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء . قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء "

قال أحمد : وحدثناه مؤمل ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، نحو حديث نافع ، عنه

انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عن سليمان بن حرب ، عن حماد ، [ عن أيوب ، ] عن [ ص: 33 ] نافع به . ، وعن قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، بمثله

وقال البخاري : حدثني محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن بريد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل المسلمين ، واليهود ، والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم ، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا ، وما عملنا باطل . فقال لهم : لا تفعلوا ، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا : ما عملنا باطل ، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه . فقال أكملوا بقية عملكم ; فإن ما بقي من النهار شيء يسير . فأبوا ، فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " انفرد به البخاري

ولهذا قال تعالى : ( لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ) أي : ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ، ولا [ على ] إعطاء ما منع الله ، ( وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )

قال ابن جرير : ( لئلا يعلم ) أي : ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها : " لكي يعلم " . وكذا حطان بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، قال ابن جرير : لأن العرب تجعل " لا " صلة في كل كلام دخل في أوله وآخره جحد غير مصرح ، فالسابق كقوله : ( ما منعك ألا تسجد ) [ الأعراف : 12 ] ، ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) [ الأنعام : 109 ] ، ( وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ) [ الأنبياء : 95 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية