الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .

هذه الجملة معترضة بين جملة سيقول السفهاء إلخ ، وجملة وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلخ ، الواو اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية ، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون ، وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عدولا خيارا [ ص: 15 ] ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة ، وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة .

وقوله كذلك مركب من كاف التشبيه واسم الإشارة فيتعين تعرف المشار إليه وما هو المشبه به ، قال صاحب الكشاف : أي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا . فاختلف شارحوه في تقرير كلامه وتبيين مراده : فقال البيضاوي : الإشارة إلى المفهوم ، أي ما فهم من قوله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم أي كما جعلناكم أمة وسطا أو كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة جعلناكم أمة وسطا . اهـ ، أي أن قوله يهدي من يشاء يومئ إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء ما ولاهم ، على ما قدمناه ، وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يعرج على وصف الكشاف الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالبا من دون إرادة بعد وفيه نظر ، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السابق ، فالإشارة حينئذ إلى مذكور متقرر في العلم فهي جارية على سنن الإشارات . وحمل شراح الكشاف الكاف على غير ظاهر التشبيه ، فأما الطيبي والقطب فقالا : الكاف فيه اسم بمعنى مثل منتصب على المفعولية المطلقة لجعلناكم ; أي مثل الجعل العجيب جعلناكم فليس تشبيها ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله يهدي وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام ، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في الكشاف بالجعل العجيب ، فالتعظيم هنا لبداعة الأمر وعجابته ، ثم إن القطب ساق كلاما نقض به صدر كلامه .

وأما القزويني صاحب الكشف والتفتزاني فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائبا مناب مفعول مطلق لجعلناكم ، كأنه قيل ذلك الجعل جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة . والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلا أن يشبهه بنفسه ، وهذا قريب من قول النابغة : " والسفاهة كاسمها " [ ص: 16 ] فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة والإشارة حينئذ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة ، وكلام الكشاف أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك بتصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى كذلك وأورثناها بني إسرائيل الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم وأورثناها .

واعلم أن الذي حدا صاحب الكشاف إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا وأمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية وفي آية سورة الشعراء ولكن صاحب الكشاف قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا فقال : كما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم . اهـ وما قاله في هذه الآية منزع حسن ; لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعطن . والتحقيق عندي أن أصل " كذلك " أن يدل على تشبيه شيء بشيء والمشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاء ، فقد يكون المشبه ‌به المشار إليه مذكورا مثل قوله تعالى وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إشارة إلى قوله وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله الآية . وكقول النابغة :

فألفيت الأمانة لم تخنها كذلك كان نوح لا يخون

وقد يكون المشبه به المشار إليه مفهوما من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه ويحتمل اعتبار المفعولية المطلقة كقول أبي تمام :


كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر     فليس لعين لم يفض دمعها عذر

قال التبريزي في شرحه : الإشارة للتعظيم والتهويل وهو في صدر القصيدة لم يسبق له ما يشبه به فقطع النظر فيه عن التشبيه واستعمل في لازم معنى التشبيه اهـ ، يعني أن الشاعر أشار إلى الحادث العظيم وهو موت محمد بن حميد الطوسي ، ومثله قول الأسدي في شعراء الحماسة يرثي أخاه .

فهكذا يذهب الزمان ويف     نى العلم فيه ويدرس الأثر

[ ص: 17 ] وقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا على ما فسر به البيضاوي من هذا القبيل .

وقد يكون مرادا منه التنويه بالخير فيجعل كأنه مما يروم المتكلم تشبيهه ثم لا يجد إلا أن يشبهه بنفسه وفي هذا قطع للنظر عن التشبيه في الواقع ، ومثله قول أحد شعراء فزارة في الأدب من الحماسة :


كذاك أدبت حتى صار من خلقي     أني رأيت ملاك الشيمة الأدبا

أي أدبت هذا الأدب الكامن العجيب ، ومنه قول زهير :


كذلك خيمهم ولكل قوم     إذا مستهم الضراء خيم

وقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا من هذا القبيل عند شراح الكشاف وهو الحق ، وأوضح منه في هذا المعنى قوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض فإنه لم يسبق ذكر شيء غير الذي سماه الله تعالى فتنة أخذا من فعل فتنا .

والإشارة على هذا المحمل المشار إليه مأخوذ من كلام متأخر عن اسم الإشارة كما علمت آنفا لجعل المأخوذ من جعلناكم ، وتأخير المشار إليه عن الإشارة استعمال بليغ في مقام التشويق كقوله تعالى قال هذا فراق بيني وبينك أو من كلام متقدم عن اسم الإشارة كما للبيضاوي إذ جعل المشار إليه هو الهدي المأخوذة من قوله تعالى يهدي من يشاء ولعله رأى لزوم تقدم المشار إليه .

والوسط : اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به وليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفا ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة : طبعا ، كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلا بعد أكل ما في الجوانب فيبقى كثير العشب والكلأ ، ووضعا ، كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة ، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه ، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير :


هم وسط يرضى الأنام بحكمهم     إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل

وقال تعالى قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون .

ويقال أوسط القبيلة لصميمها . وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين [ ص: 18 ] ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور ، والكرم بين الشح والسرف ، والعدالة بين الرحمة والقساوة ، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك روي حديث خير الأمور أوساطها وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صار حقيقتين عرفيتين .

فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وفسر بالعدول ، والتفسير الثاني رواه الترمذي في سننه عن حديث أبي سعيد الخدري عن النبيء صلى الله عليه وسلم ، وقال : حسن صحيح ، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة .

ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو : رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محضة لا تشعر بصلة في الذات . وضمير المخاطبين هنا مراد به جمع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها ، ولأن قوله لتكونوا شهداء قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية .

والآية ثناء على المسلمين لأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بيانا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الضلالات التي راجت على الأمم ، قال فخر الدين : يجوز أن يكونوا وسطا بمعنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح ابن الله ، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل . واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه ، وفي بيان هذا الاستدلال طرق :

الأول : قال الفخر : إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة اهـ ، أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم ، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه [ ص: 19 ] وهذا رد متمكن ، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات ،

الطريق الثاني : قال البيضاوي : لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم اهـ ، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية ، وهذا يرجع إلى الطريق الأول ،

الطريق الثالث : قال جماعة : الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة ، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره .

والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدح للأمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة لا من أحوال جميعها ، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل للشريعة ، وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبيء صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن ، وهذا من أحوال إثبات الشريعة ، به فسرت المجملات وأسست الشريعة ، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه ، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر ، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها .

وأما كون الآية دليلا على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلا بأن يقال : إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطا وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الأمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم ، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا بالنسبة للعلماء وفهما بالنسبة للعامة ، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قيمة وهو معنى كونها وسطا ، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكل فرد ، ولما كان الوصف الذي ذكر

[ ص: 20 ] أثبت لمجموع الأمة قلنا : إن هذا المجموع لا يقع في الضلال لا عمدا ولا خطأ ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظرا ، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها ، ثم إن العامة تأخذ نصيبا من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال .

وقوله لتكونوا شهداء علة لجعلهم وسطا فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة ، ولا بوجوب وإلجاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم منها خيرا فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته .

و ( الناس ) عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية . فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهور الحق ، وهذا حكم تاريخي ديني عظيم إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب . والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير ، فيقول : الله من شهودك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك جعلناكم أمة وسطا قال عدلا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا اهـ . فقوله " ثم قرأ " يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية ، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطا ، وأما مجيء شهادة الآخرة على طبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى .

[ ص: 21 ] ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام ، ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين .

والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم ، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شهد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم .

وقوله ويكون الرسول عليكم شهيدا معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصودا بالذات بل هو تكميل للشهادة الأولى ; لأن جعلنا وسطا يناسبه عدم الاحتياج إلى الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا ، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك ، وأما الأخروية فهي ما روي في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهدت به ، وما روي في الحديث الآخر في الموطأ والصحاح فليذادن أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا ، فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي . وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله لتكونوا شهداء على الناس وإلا فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين شهيدا معنى رقيبا ومهيمنا في الموضعين كما في الكشاف .

وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضي إلا بعد حصولها ، ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه ، وأنه يشهد على العلم بالسماع ، والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينيه أو يسمع بأذنيه ، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة ، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكى ، وأن المزكى لا يحتاج للتزكية ، وأن الأمة لا تشهد على النبيء صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول اللهم اشهد فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت . وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلا لمجرد الاهتمام [ ص: 22 ] بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلا رسولها ، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمة ذات حرف مد قبل الحرف الأخير ، لأن المد أمكن للوقف وهذا من بدائع فصاحة القرآن ، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية