الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان : السلطان ألب أرسلان الملقب بسلطان العالم ، ابن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن تقاق التركي صاحب الممالك المتسعة ، وقد ملك بعد عمه طغرلبك سبع سنين وستة أشهر وأياما ، وكان عادلا يسير في الناس سيرة حسنة كريما رحيما شفوقا على الرعية ، رفيقا على الفقراء بارا بأهله وأصحابه ومماليكه كثير الدعاء بدوام ما أنعم به عليه ، كثير الصدقات ، يتصدق في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار ، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة بل يقنع من الرعايا بالخراج في قسطين ; رفقا بهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كتب إليه بعض السعاة في نظام الملك فاستدعاه وقال له : إن كان هذا صحيحا ، فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك ، وإن لم يكن صحيحا فاغفر لهم زلتهم بمهم يشغلهم عن السعاية بالناس . وكان شديد الحرص على حفظ مال الرعايا ، بلغه أن غلاما من غلمانه أخذ إزارا لبعض التجار فصلبه ، فارتدع سائر المماليك به خوفا من سطوته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وترك من الأولاد ملكشاه الذي قام من بعده وإياز وتكش وبوري برس [ ص: 40 ] وأرسلان أرغون وسارة وعائشة وبنتا أخرى . وكانت وفاته في هذه السنة عن إحدى وأربعين سنة ودفن عند والده بالري رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأمه من بني سليم ، توفي أبوه وهو طفل فقرأ الأدب والعربية ، وصحب الشيخ أبا علي الدقاق وأخذ الفقه عن أبي بكر بن محمد الطوسي والكلام عن أبي بكر بن فورك ، وصنف الكثير فله " التفسير الكبير " ، و " الرسالة " التي ترجم فيها جماعة من المشايخ والصالحين وحج صحبة إمام الحرمين وأبي بكر البيهقي وكان يعظ الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      توفي بنيسابور في هذه السنة عن سبعين سنة ، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق ، ولم يدخل أحد من أهل بيته بيت كتبه إلا بعد سنين احتراما له ، وكان له فرس يركبها قد أهديت إليه ، فلما توفي لم تأكل علفا حتى نفقت بعده بيسير ، ذكره ابن الجوزي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد أثنى عليه القاضي ابن خلكان في " الوفيات " ثناء كثيرا وذكر شيئا من شعره الرائق . فمن ذلك قوله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 41 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك     أقمنا زمانا والعيون قريرة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأصبحت يوما والجفون سوافك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله أيضا رحمه الله تعالى :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لو كنت ساعة بيننا ما بيننا     وشهدت حين نكرر التوديعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أيقنت أن من الدموع محدثا     وعلمت أن من الحديث دموعا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة     فإني من ليلى لها غير ذائق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأكثر شيء نلته من وصالها     أماني لم تصدق كخطفة بارق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ابن صربعر الشاعر اسمه علي بن الحسن بن علي بن الفضل أبو منصور الكاتب المعروف بابن صربعر ، وكان نظام الملك يقول له : أنت صردر لا صربعر وقد هجاه بعضهم فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لئن نبز الناس قدما أباك     وسموه من شحه صربعرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإنك تنثر ما صره     عقوقا له وتسميه شعرا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 42 ] قال ابن الجوزي : وهذا ظلم فاحش فإن شعره في غاية الحسن ثم أورد له قطعا حسانا من شعره فمن ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إيه أحاديث نعمان وساكنه     إن الحديث عن الأحباب أسمار
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أفتش الريح عنكم كلما نفحت     من نحو أرضكم نكباء معطار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وقد حفظ القرآن وسمع الحديث من ابن بشران وغيره وحدث كثيرا ، وركب يوما دابة فتردى هو والدابة في بئر فماتا ودفن بباب أبرز ، وذلك في صفر من هذه السنة قال ابن الجوزي قرأت بخط ابن عقيل كان صربعر خازنا بالرصافة وكان ينبز بالإلحاد ، وقد أورد له ابن خلكان شيئا من أشعاره وأثنى عليه في فنه ، والله أعلم بحاله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن علي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي [ ص: 43 ] بالله أبو الحسين ، ويعرف بابن الغريق ولد سنة سبعين وثلاثمائة وسمع الدارقطني وهو آخر من حدث عنه في الدنيا ، وابن شاهين ، وتفرد عنه وسمع خلقا آخرين وكان ثقة دينا كثير الصلاة والصيام وكان يقال له راهب بني هاشم ، وكان غزير العلم والعقل كثير التلاوة رقيق القلب غزير الدمعة ، رحل إليه الطلبة من الآفاق ، ثم ثقل سمعه فكان يقرأ على الناس ، وذهبت إحدى عينيه ، وخطب وله ست عشرة سنة وشهد عند الحكام سنة ست وأربعمائة ، وولي الحكم سنة تسع وأربعمائة ، وأقام خطيبا بجامع المنصور وجامع الرصافة ستا وسبعين سنة ، وحكم ستا وخمسين سنة وتوفي في سلخ ذي القعدة من هذه السنة ، وقد جاوز تسعين سنة ، وكان يوم جنازته يوما مشهودا ورئيت له منامات صالحة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية