الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الرابع : في صفة من يحملها . وفي الجواهر : في الركن بحثان : من يحمل ، وصفته .

                                                                                                                البحث الأول ، من يحمل ، وهو ثلاثة : الأول : العصبة والولاء وبيت المال دون الموالاة والمخالف ، أما العصبة : فكل عصبة يدخل فيها الأب والابن ، وفي دخول الجاني روايتان ، ويلحق بالقرابة الديوان لعلة التناصر ، فإن كان المعا من أهل ديوان [ ص: 388 ] مع غير قومه ، حملوا عنه دون قومه ; لأنهم ناصروه رحل عنهم ، وإن احتاج أهل ديوان إلى معونة قومهم لقلتهم أو لانقطاع ديوانهم أعانوهم ، وقال أشهب : إنما يحمل عنه أهل الديوان إذا كان العطاء قائما ، وغلا وإلا فقومه ، والجهة الثانية : الولاء إذا عدمت العصبة ، فعلى معتق الجاني ، وهو المعتق الأعلى ، وفي الأسفل قولان . الثالث : بيت المال عند عدم العصبة والولاء يأخذ من بيت المال إن كان الجاني مسلما ، وإن كان ذميا رجعنا على الذين يؤدون معه الجزية ، أهل إقليمه الذين يجمعه وإياهم أداء الجزية ، فإذا لم يستقلوا ضم إليهم أقرب القرى منهم .

                                                                                                                البحث الثاني ، في صفاتهم ، وهي : التكليف ، والذكورة ، والموافقة في الدين والدار ، فلا يضرب على عبد ، ولا صبي ، ولا امرأة ، ولا مخالف في الدين ، ولا فقير وإن كان يعمل ، ولا حد لغناهم في الحمل ولا بما يؤخذ ، وقيل : يؤخذ من كل مائة درهم ونصف ، وكذلك كان يؤخذ من أعطيات الناس .

                                                                                                                تفريع على البحثين . في الكتاب : إن قتل ذمي مسلما خطأ حملته عاقلته ، وإن أصاب أهل الذمة بعضهم بعضها حمل ذلك عواقلهم ، وإنما العقل في القبائل كانوا أهل ديوان أم لا ، ومصر والشام أجناد كل جند عليهم جرايرهم ، فلا يعقل أهل مصر مع الشام ، ولا الشام مع مصر ، ولا الحضر مع البدو ، ولا البدو مع الحضر لعدم التناصر ، ولا يكون في دية واحدة ; إبل وذهب ، أو ذهب ودراهم ، وإن انقطع بدوي فسكن الحضر عقل معهم كالشامي يستوطن مصر ، ثم إن جنى وقومه بالشام ، وليس بمصر من قومه من يحمل لقلتهم ، ضم إليه أقرب القبائل بها إلى قومه وإن لم يكن بمصر أحد حتى يقود ، إذ لا يعقل أهل الشام مع مصر ، ويحمل الغني بقدره ( ومن دونه بقدره ) على قدر يسرهم . وفي التنبيهات : قوله : إذا لم يكن فمن [ ص: 389 ] قومه من يحمل لقلتهم ، ضم إليهم أقرب القبائل . يريد في النسب لا في الجوار ، قال ابن يونس : حمل العاقلة الدية كان في الجاهلية أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه من مكارم الأخلاق ، ولا عقل على مديان لأنه كالفقير ، وكره مالك أن يبعث السلطان في الدية من يأخذها من العاقلة فيدخل فيها فساد كبير . وقال سحنون : ويضم أهل إفريقية بعضهم لبعض من طرابلس إلى طبنة في العقل ، وتعتبر صفات العاقلة وشروط حملها يوم يقسم عليهم الدية; لأنه يوم الطلب لا يوم مات المقتول ولا يوم جرح ، ولا يوم ثبت الدم ، ولا يزول عمن مات بعد ذلك أو أعدم ; لأنه حكم لا ينقض ولا يدخل من بلغ بعد ذلك من الصبيان ، أو غائب قدم ، أو منقطع الغيبة ، ولا يزاد على من أيسر . قال سحنون : ومن استحق بملك رجع ما عليه على بقية العاقلة لتبين الغلط في الحكم ، ولا يزاد في التوظيف على بني عمه ديته ، وهم وغيرهم سواء . قال أصبغ : ولا يدخل مع العاقلة صبي ولا مجنون ، ويدخل السفيه البالغ فيؤخذ من ماله كما يوضع عليه الجزية .

                                                                                                                قال اللخمي : يختلف في أربعة مواضع : هل يعقل أهل الديوان دون القاتل ؟ وهل يراعى الكورة أو يكفي المصر الكبير ؟ وفي اجتماع البدو مع الحضر ، ومن لا عاقلة له هل تسقط جنايته ، أو في ماله ، أو في بيت المال ؟ ومراد ابن القاسم بمصر من أسوان إلى الإسكندرية ، ومصر اسم الجميع ، وهي الكورة . وعن أشهب : يقتصر على الفسطاط دون بقية الكورة ، وإن لم يكن في قتيل محمل ضم إليه أقرب القبائل من الفسطاط خاصة . وعن أشهب : إذا اجتمعت البادية والقرى في حمل واحد أخرج كل ما يلزمه إبلا أو غيره ، وإن كان القاتل من غيرهم ، وتؤخذ الإبل بقيمتها . وفي النوادر : من ظعن فرارا من الدية لحقه حكمها حيث كان ، بخلاف الغائب لغير [ ص: 390 ] ذلك ، والغرماء مقدمون على طالب الدية ; لأنها مواساة ، ومن مات فما وظف عليه في ماله كالدين ، وعن سحنون : يحاصص بها ; لأنها دين ، وعن ابن القاسم : من مات لا شيء في ماله ، ولا على وارثه ، ويرجع على بقية العاقلة . وأنكره سحنون . ومن أسلم من البربر ولم يسبوا فإنهم يتعاقلون كالعرب ، ومن سبي وعتق فعقله على مواليه ، ومتى اجتمع في العاقلة أهل إبل وأهل ذهب : قال أشهب يتبع الأقل الأكثر ، فإن استويا حمل كل فريق من هم أهله ، وقاله مالك ; وهو خلاف لابن القاسم : وإذا جنى بمصر ولم يقم عليه حتى أوطن العراق ، فجنايته على مصر ، وإذا جنى الساكن بمصر ، وليس بها من قومه أحد ، حمل جنايته أقرب القبائل إليه ممن بمصر ، ولا يعقل عن المرأة أبوها ولا زوجها ولا إخوتها لأمها إن لم يكونوا من قبيلتها ; لأنهم ليسوا عصبة ، وإذا قدم حربي بأمان فقتل مسلما خطأ . قال مالك : يحبس ويرسل إلى أهل موضعه وكورته إلى قومه منها يخبرونهم ما يلزمهم في حكمنا ، فإن ودوا عنه لم يلزمه إلا ما كان يؤديه معهم ، وعنه : إن الدية في ماله وليس على بلده منها شيء ، وقال ابن القاسم : ديته على أهل دينه الحربيين ، وأهل الصلح يتعاقلون ، وإن اختلفت قبائلهم . قال المغيرة : إن كانوا أهل جزية ، ولهم معقلة يتعاقلون عليها ، ويحملها بعض عن بعض دون بعض حملتهم عليها ، وإلا ففي مال الجاني . قال سحنون : إذا لزمت دية القيروان دخل فيها من بإفريقية من اليهود الذين يحملون معه الخراج ، وإن لم يقدروا أسلفهم الإمام من بيت المال ، ولا يشق عليهم .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في النوادر : إن حملت العاقلة شيئا نظر أنه هل يلزمها ، ثم تبين أنه لا يلزمها ، [ ص: 391 ] فلهم الرجوع ما لم يطل الأمر بعد الدفع سنين كثيرة التي يرى فيها أنهم علموا ذلك فيها وانقرضوا عنه .

                                                                                                                تنبيه : وافقنا ( ح ) في دخول الجاني ، ومنعه ( ش ) . لنا : ما روي أن نعيم بن أبي مسلمة رأى رجلا يرمي الكفار فطعنه فقتله ، فتبين أنه مسلم فقضى عمر رضي الله عنه بديته عليه وعلى عاقلته ; ولأن الأصل أنه يحمل وحده ; لأنه الجاني ، ولأن التحمل للنصرة والمواساة ، وهو أحق بنصرة نفسه ومواساتها . احتجوا : بأنه عليه السلام قضى بالدية على العاقلة ، والدية اسم للجميع ; ولأن كل غرم وجب بالقتل استوى قليله وكثيره في التحمل طردا وعكسا ، لأن دية العمد لا تحمل العاقلة قليلها ولا كثيرها ، فدية الخطأ وجب أن تحملها كلها كالجاني في العمد ; ولأن القتل تارة يمنع العتم كالعمد في الميراث ، وتارة يمنع الغرم كدية الخطأ ، والأول يمنع مطلقا ، فالثاني كذلك ، والقياس على القاضي إذا قتل بالحكم خطأ ، وكوكيل الإمام إذا قتل خطأ .

                                                                                                                والجواب عن الأول : القول بالموجب ; لأنه من جملة العاقلة .

                                                                                                                وعن الثاني : الفرق أن العمد صادف الأصل ( وهو أن الجاني غرم ، والخطأ خالف الأصل ) : غرم غير الجاني فلا يخرج الجاني منه تعليلا بمخالفة الأصل .

                                                                                                                وعن الثالث : أن منع الغرم تخفيف ورحمة من الله تعالى ، فناسب أن يوزع على الجميع ، والعتم عقوبة له بنقيض قصده ، فتوزيع الميراث متعذر ، وتوزيع الدية غير متعذر .

                                                                                                                وعن الرابع : الفرق أن ولاة الأمور لو غرموا مع تصديهم للأحكام لأدى [ ص: 392 ] ذلك لزهادة في الولايات فتتعطل المصالح ، بخلاف الجاني ، كذلك وكيل الإمام واتفق العلماء أن إخوة الأم وسائر ذوي الأرحام والزوج ، وكل من عدا العصبة ليسوا من العاقلة ، ولا الأم ، ولا آباؤها ، ولا أجدادها ; إلا أن يكون عصبة للقاتل ، وإن كان القاتل امرأة فإن كان بنوها وبنو بنيها وإن سفلوا بني عمها ; لأن زوجها من بني عمها ، فعاقلتها وإلا فلا . وقيل : عاقلتها ، وافقنا ( ح ) على أن الآباء والأبناء والحفدة يتحملون كغيرهم ، وقال ( ش ) : لا يتحمل هؤلاء شيئا بل العصبات الذين هم جوانب النسب ، كالإخوة ، وبني الإخوة ، والأعمام ، وبنيهم ، وعن أحمد : القولان . لنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عصبة العاقلة وزوجها وبنيها ، والقياس على الأخ بطريق الأقل ; لأن الأب والابن أعظم نصرة وأبلغ ميراثا فيجب كالأخ ، وكيف يكون العم أكثر تعصيبا من الأب والابن ، بل المرتب على النسب إما أن يختص بالأب والجد كولاية المال والبضع والعتق بالملك والنفقة ، أو يثبت الجميع كولاية النكاح ، وصلاة الجنازة ، أما لغير الأصول والفصول والرحم فلم يقع في الشرع . احتجوا : بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، لا يؤخذ الرجل بجريرة ابنه ، ولا ابن بجريرة أبيه ) ولأنه نسب يوجب التوارث من غير حجب إسقاط ، فلا يحمل كالزوجة ، وبالقياس على ابن المرأة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن المراد بالحديث : ما كانت الجاهلية تفعله ، يأخذون الأب بالابن ، والابن بالأب .

                                                                                                                [ ص: 393 ] وعن الثاني : الفرق عدم التناصر والعصوبة من جهة الزوجة بخلاف الابن والأب .

                                                                                                                وعن الثالث : بمنعه على أحد القولين ونسلمه ، ويفرق بأنه ليس من عصبتها ، فإنه عندهم لا يلي تزويجها ، ثم الرضاع حجة عليكم استوى فيه الجميع ، وكذلك تحريم المصاهرة ، ووافقنا ( ح ) على أن الديوان يعقل ، مع أن صاحب الزاهي حكى فيه قولين ، وقال أشهب : إنما يعقل الديوان إذا كان العطاء وإلا فقومه ، وقال ( ش ) وأحمد : لا يعقل الديوان . لنا : أن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين ، وجعل أهل كل ديوان يحملون جناية من معهم في الديوان ، ولم ينكر عليه أحد ، فكان إجماعا . ونكتة المسألة : أن التعاقل مبني على التناصر ، ولذلك اختص العاقلة العصبة ، وسقطت عن النساء والصبيان والمجانين ; لعدم النصرة ، مع وجود القرابة فيهم فقد دار العقل مع النصرة وجودا وعدما ، وأهل ديوانه ينصرونه أشد من العصبة ، والديوان أخص من النسب ; لأنه يجمع أهله في موضع واحد ، وعطاء واحد ، وتكون مودتهم منسجمة . وحميتهم لبعضهم متوفرة . احتجوا : بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على العاقلة . وإذا استقر حكم في زمانه عليه السلام لا يبطل بعده ; لتعذر النسخ ، ولأنه حكم يتعلق بالعصبة عند عدم الديوان ، فيتعلق عند وجوده كالميراث ، ولأنه حكم لا يثبت إلا بين المتواليين في الدين ، فلا يثبت بالديوان كولاية النكاح ; ولأن مطلق التناصر لا يكفي ; لأن أهل السكة الواحدة ، والبلدة الواحدة في أرض الغربة ينصر بعضهم بعضا والصدقاء والشركاء .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن تجدد الأحكام لتعدد عللها في المحال بعده عليه السلام ليس نسخا ، وإنما النسخ تجديد حكم مطلقا لا ترتبه على علة لم تكن [ ص: 394 ] موجودة في زمانه عليه السلام ، وهو مبتكر رتبنا عليه التحريم ولم يكن نسخا ، وكذلك لو أحدثوا آلة مطربة أو نوعا من الكفر لم يعلم أنكرنا وقاتلنا ، وليس نسخا .

                                                                                                                وعن الثاني : لا يستقيم ترتيبه على الميراث بدليل النسوان والصبيان ، بل على النصرة وهي مشتركة بل أقوى كما تقدم .

                                                                                                                وعن الثالث : أن ولاية النكاح أعظم رتبة لدرء العار عن المولية ، ولذلك قدم الأقرب فالأقرب ، ولا يلزم ذلك في العاقلة اتفاقا .

                                                                                                                وعن الرابع : أن أهل المحلة بينهم العداوة ، ثم إن تلك الأسباب ليس التناصر لازما لها ; قد يقع وقد لا يقع ، وأما الديوان فمعد للنصرة والقتال عن بعضهم .

                                                                                                                فائدة : الديوان قيل : إن كسرى أنوشروان اطلع على أهل حسابه فقال : هؤلاء ديواناه ، بالهاء ، ثم الها لطول الاستعمال ، ومعناه بالفارسية : مجانين ، وقيل : شياطين . والعقل : قيل : لأن العاقلة تعقل لسان الطالب ، وقيل : تعقل بسبب الغرامة ; الجناية عن الجناة ، وقيل : لأن غالبه وأصله : الإبل ، وهي يؤتى بها معقولة ، فهذه ثلاثة معان ، وأصله : المنع ، ومنه العقل ; لأنه يمنع العاقل من الوقوع في الرذائل .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية