الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          [ ص: 164 ] فصل من نذر الاعتكاف أو الصلاة في أحد المساجد الثلاثة : المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لم يجزئه في غيرها ( هـ ) لفضل العبادة فيها على غيرها ، وللشافعي قول : يتعين المسجد الحرام فقط . وإن عين المسجد الحرام لم يجزئه غيره ، لأنه أفضلها ، احتج به أحمد والأصحاب ، فدل إن قلنا إن المدينة أفضل أن مسجدها أفضل ( ر م ) وهذا ظاهر كلام صاحب المحرر وغيره ، وصرح به صاحب الرعاية . وإن عين مسجد المدينة لم يجزئه غيره ، لأنه دونه ، إلا المسجد الحرام على ما سبق . وإن عين المسجد الأقصى أجزأه المسجدان فقط ، نص عليه ، لأفضليتهما عليه ( م ) في مسجد المدينة . وإن عين مسجدا غير هذه الثلاثة لم يتعين ، لحديث أبي هريرة { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } وذكرها ، متفق عليه ، ولمسلم في رواية : { إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد } فلو تعين احتاج إلى شد رحل ، كذا ذكره الأصحاب ، وهو صحيح فيما إذا احتاج إلى ذلك ، وخالف فيه الليث ، [ ص: 165 ] ويتوجه إلا مسجد قباء ، وفاقا لمحمد بن مسلمة المالكي ، لقول ابن عمر { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور قباء راكبا وماشيا } .

                                                                                                          وفي رواية { : كان يأتي قباء كل سبت ، كان يأتيه راكبا وماشيا ويصلي فيه ركعتين } . وكان ابن عمر يفعله ، متفق عليه . وللنسائي [ وابن ماجه ] من حديث سهل بن حنيف { : إن من خرج حتى يأتيه فيصلي فيه كان له عدل عمرة } ، وعن أسيد بن ظهير مرفوعا { الصلاة في مسجد قباء كعمرة } رواه الترمذي وقال : غريب ، ولا نعرف لأسيد شيئا يصح غير هذا . وفيه تخصيص بعض الأيام بالزيارة ، وكرهه محمد بن مسلمة المالكي . أما ما لم يحتج إلى شد رحل فمفهوم كلامه في المغني يلزم فيه ، وهو ظاهر الانتصار ، فإنه قال : القياس لزومه تركناه لقوله { لا تشد الرحال } . وذكره أبو الحسين احتمالا في تعيين المسجد العتيق للصلاة ، وذكر صاحب المحرر أن القاضي ذكر تعيينه لها ، قال صاحب المحرر : لأنه أفضل ، قال : ونذر الاعتكاف مثله ، وأطلق شيخنا وجهين في تعيين ما امتاز بمزية شرعية ، كقدم وكثرة جمع ، واختار في موضع آخر : يتعين ، وصرح المالكية بهذا في المسجد القريب ، وقطع به ابن الجلاب منهم ، ورواه محمد بن المواز في الموازية عن مالك ، وذكره بعض الشافعية وجها ، وبعضهم قولا في تعيين المساجد للاعتكاف ، واحتجوا لعدم [ ص: 166 ] التعيين بأنه لا مزية لبعض المساجد على بعض بمزية أصلية ، وهذا يبطل بقباء ، ثم هي طاعة ، فتدخل في الخبر ، ثم ما الفرق ؟ واحتج الأصحاب بأن الله لم يعين لعبادته مكانا : ويبطل ببقاع الحج .

                                                                                                          وقال القاضي وابن عقيل : الاعتكاف والصلاة لا يختصان بمكان ، بخلاف الصوم ، كذا قالا ( م هـ ) فعلى المذهب الأول يعتكف في غير المسجد الذي عينه ، وفي الكفارة وجهان إن وجبت في غير المستحب . وكذا الصلاة ( م 6 ) وظاهر كلام جماعة : يصلي في غير مسجد [ ص: 167 ] أيضا ، ولعله مراد غيرهم ، وهو متجه . وإن أراد الذهاب إلى ما عينه فإن احتاج إلى شد رحل خير عند القاضي وغيره ، وجزم بعضهم بإباحته ، واختاره الشيخ في القصير ، واحتج بخبر قباء ، وحمل النهي على أنه لا فضيلة فيه ، وقاله أكثر الشافعية ، وحكاه في شرح مسلم عن جمهور العلماء ، ولم يجوزه ابن عقيل وشيخنا ( م 7 ) ( و م ) وبعض أصحابه ، وذكر جماعة من أصحابه عنه : يكره ، ولعله مراده في التخليص وغيره بأنه لا يترخص ، وذكر الشيخ زين الدين في شرح المقنع : يكره إلى [ ص: 168 ] القبور والمشاهد وهي المسألة ، ونقل ابن القاسم وشندي أن أحمد سئل عن الرجل يأتي المشاهد ويذهب إليها : ترى ذلك ؟ قال : أما على { حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى } ، وعلى نحو ما كان يفعل ابن عمر يتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره ، فليس بذلك بأس ، إلا أن الناس أفرطوا في هذا جدا وأكثروا ، قال ابن القاسم ، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده ، وحكى شيخنا وجها : يجب السفر المنذور إلى المشاهد ، ومراده والله أعلم اختيار صاحب الرعاية .

                                                                                                          وقال شيخنا أيضا : ما شرع جنسه والبدعة اتخاذه عادة كأنه واجب كصلاة وقراءة [ ودعاء ] وذكر جماعة وفرادى وقصد بعض المشاهد ونحوه يفرق بين الكثير الظاهر منه والقليل الخفي والمعتاد وغيره . قال : ويترتب على استحبابه وكراهته حكم نذره وشرطه في وقف ووصية ونحوه ، والله أعلم . أما ما لم يحتج إلى شد رحل فيخير ، ذكره القاضي وابن عقيل .

                                                                                                          وقال في الواضح : الأفضل الوفاء ، وهذا أظهر .

                                                                                                          [ ص: 166 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 166 ] ( مسألة 5 ) قوله : وإن عين مسجدا غير هذه الثلاثة لم يتعين . أما ما لم يحتج إلى شد رحل فمفهوم كلامه في المغني يلزم فيه ، وهو ظاهر الانتصار ، فإنه قال : القياس لزومه تركناه لقوله { لا تشد الرحال } ، وذكره أبو الحسين احتمالا في تعيين المسجد العتيق للصلاة ، وذكر صاحب المحرر أن القاضي ذكر تعيينه لها ، قال صاحب المحرر : لأنه أفضل ، قال : ونذر الاعتكاف مثله ، وأطلق شيخنا وجهين في تعيين ما امتاز بمزية شرعية ، كقدم وكثرة جمع ، واختار في موضع آخر يتعين وقال القاضي وابن عقيل : الاعتكاف والصلاة لا يختصان بمكان ، بخلاف الصوم ، كذا قالا ، انتهى كلام المصنف ، وملخصه أنه إذا نذر اعتكافا في مسجد ولم يحتج ، إلى شد رحل فهل يلزمه إتيانه ويتعين فيه أم لا ؟ والصحيح من المذهب أنه لا يتعين غير المساجد الثلاثة ولو لم يحتج إلى شد رحل وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب ، بل هو كالصريح في كلام بعضهم ، وهو ظاهر ما قدمه المصنف في صدر المسألة ، والله أعلم .

                                                                                                          ( مسألة 6 ) قول : فعلى المذهب الأول يعتكف في غير المسجد الذي عينه ، [ ص: 167 ] وفي الكفارة وجهان إن وجبت في غير المستحب ، وكذا الصلاة ، انتهى ، وأطلق الوجهين في الحاويين والفائق والمجرد ، ذكره في باب النذر ، إحداهما لا كفارة ، وهو الصحيح ، جزم به المقنع في بعض النسخ ، قال في الرعايتين : وعليه كفارة يمين ، في وجه ، فدل على أن المقدم والمشهور لا كفارة عليه ( قلت ) : وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب ، والوجه الثاني عليه الكفارة ، جزم به ابن عبدوس في تذكرته .

                                                                                                          ( مسألة 7 ) قوله : وإن أراد الذهاب إلى ما عينه فإن احتاج إلى شد رحل خير عند القاضي وغيره ، وجزم بعضهم بإباحته ، واختاره الشيخ في القصير ولم يجوزه ابن عقيل وشيخنا ، انتهى ، ما اختاره الشيخ الموفق هو الصواب ، واختاره الشارح أيضا .




                                                                                                          الخدمات العلمية