الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون . وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون . أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت [ ص: 300 ] أيديهم إذا هم يقنطون . أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فأقم وجهك قال مقاتل: أخلص دينك الإسلام للدين أي: للتوحيد . وقال أبو سليمان الدمشقي: استقم بدينك نحو الجهة التي وجهك الله إليها . وقال غيره: سدد عملك . والوجه: ما يتوجه إليه، وعمل الإنسان ودينه: ما يتوجه إليه لتسديده وإقامته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: حنيفا قال الزجاج: الحنيف: الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحنف في الرجل، وهو ميلها إلى خارجها خلقة، لا يقدر الأحنف أن يرد حنفه . وقوله: فطرت الله منصوب، بمعنى: اتبع فطرة الله، لأن معنى فأقم وجهك : اتبع الدين القيم، واتبع فطرة الله، أي: دين الله . والفطرة: الخلقة التي خلق الله عليها البشر . وكذلك قوله عليه السلام: " كل مولود يولد على الفطرة " ، أي: على الإيمان بالله . وقال مجاهد في قوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها قال: الإسلام، وكذلك قال قتادة . والذي [ ص: 301 ] أشار إليه الزجاج أصح، وإليه ذهب ابن قتيبة ، فقال: فرق ما بيننا وبين أهل القدر في هذا الحديث، أن الفطرة عندهم: الإسلام، والفطرة عندنا: الإقرار بالله والمعرفة به، لا الإسلام، ومعنى الفطرة: ابتداء الخلقة، والكل أقروا حين قوله: ألست بربكم؟ قالوا بلى [الأعراف: 172] ولست واجدا أحدا إلا وهو مقر بأن له صانعا ومدبرا وإن عبد شيئا دونه وسماه بغير اسمه; فمعنى الحديث: إن كل مولود في العالم على ذلك العهد وذلك الإقرار الأول، وهو للفطرة، ثم يهود اليهود أبناءهم، أي: يعلمونهم ذلك، وليس الإقرار الأول مما يقع به حكم ولا ثواب; وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم، واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ثم أجمعوا على أن اليهودي إذا مات له ولد صغير ورثه، وكذلك النصراني والمجوسي، ولو كان معنى الفطرة الإسلام، ما ورثه إلا المسلمون، ولا دفن إلا معهم; وإنما أراد بقوله عليه السلام: " كل مولود يولد على الفطرة " أي: على تلك البداية التي أقروا له فيها بالوحدانية حين أخذهم من صلب آدم، فمنهم من جحد ذلك بعد إقراره . ومثل هذا الحديث [ ص: 302 ] حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء " ، وذلك أنه لم يدعهم يوم الميثاق إلا إلى حرف واحد، فأجابوه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: لا تبديل لخلق الله لفظه لفظ النفي ، ومعناه النهي; والتقدير: لا تبدلوا خلق الله . وفيه قولان . أحدهما: أنه خصاء البهائم، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه . والثاني: دين الله، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي في آخرين . وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ذلك الدين القيم يعني التوحيد المستقيم ولكن أكثر الناس يعني كفار مكة لا يعلمون توحيد الله .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 303 ] قوله تعالى: منيبين إليه قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين، لأن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم تدخل معه فيها الأمة ومعنى " منيبين " : راجعين إليه في كل ما أمر، فلا يخرجون عن شيء من أمره . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [البقرة: 3، الأنعام: 159] إلى قوله: وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة وفيه قولان . أحدهما: أنه القحط، والرحمة: المطر . والثاني: أنه البلاء، والرحمة: العافية، إذا فريق منهم وهم المشركون . والمعنى: أن الكل يلتجؤون إليه في شدائدهم، ولا يلتفت المشركون حينئذ إلى أوثانهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ليكفروا بما آتيناهم قد شرحناه في آخر (العنكبوت: 67)، وقوله: فتمتعوا خطاب لهم بعد الإخبار عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم أنزلنا عليهم أي: على هؤلاء المشركين سلطانا أي: حجة وكتابا من السماء فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أي: يأمرهم بالشرك؟! وهذا استفهام إنكار، معناه: ليس الأمر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذا أذقنا الناس قال مقاتل: يعني كفار مكة رحمة وهي المطر . والسيئة: الجوع والقحط . وقال ابن قتيبة : الرحمة: النعمة، والسيئة: المصيبة . قال المفسرون: وهذا الفرح المذكور هاهنا، هو فرح البطر الذي لا شكر فيه، والقنوط: اليأس من فضل الله، وهو خلاف وصف المؤمن، فإنه يشكر عند النعمة، ويرجو عند الشدة; وقد شرحناه في (بني إسرائيل: 26) إلى قوله: ذلك يعني إعطاء الحق خير أي: أفضل من الإمساك للذين يريدون وجه الله أي: يطلبون بأعمالهم ثواب الله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية