الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1944 (19) باب

                                                                                              فضل الصيام ، والأمر بالتحفظ به من الجهل والرفث

                                                                                              [ 1018 ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : قال الله عز وجل : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ، ولا يسخب (وفي رواية: ولا يجهل) فإن سابه أحد ، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك ، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه .

                                                                                              وفي رواية : كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال: قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي .

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 273)، والبخاري (1904)، ومسلم (1151) (163 و 164 )، والنسائي (4 \ 162-163) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (19) ومن باب: فضل الصيام

                                                                                              قوله : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ) ; اختلف في معنى هذا على أقوال : [ ص: 212 ] أحدها : أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها ، فيكون لهم ، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص ; لأن حال الممسك شبعا ، كحال الممسك تقربا ، وارتضاه المازري .

                                                                                              وثانيها : أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظ إلا الصيام فإنهم لا حظ لهم فيه ; قاله الخطابي .

                                                                                              وثالثها : أن أعمالهم هي أوصافهم ، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام ; فإنه استغناء عن الطعام ، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى .

                                                                                              ورابعها : أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا ، كما قال : (بيتي) و (عبادي) .

                                                                                              وخامسها : أن أعمالهم يقتص منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام فإنه لله ، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئا . قاله ابن العربي . وقد كنت استحسنته إلى أن فكرت في حديث المقاصة ، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها ، فإنه قال فيه : (هل تدرون من المفلس ؟) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : (المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، وسفك دم هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ; أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ، ثم طرح في النار) . وهذا يدل على أن الصوم يؤخذ كسائر الأعمال .

                                                                                              [ ص: 213 ] وسادسها : أن الأعمال كلها ظاهرة للملائكة ، فتكتبها إلا الصوم ، وإنما هو نية وإمساك ، فالله يعلمه ، ويتولى جزاءه ; قاله أبو عبيد .

                                                                                              وسابعها : أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها ، وتضعيفها إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير ، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها : (كل عمل ابن آدم يضاعف ; الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله : إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به) ; يعني - والله تعالى أعلم - : أنه يجازي عليه جزاء كثيرا من غير أن يعين مقداره ، ولا تضعيفه ، وهذا كما قال الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين . وهذا ظاهر قول الحسن ، غير أنه قد تقدم ، ويأتي في غير ما حديث : أن صوم اليوم بعشرة ، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصيام رمضان صيام الدهر . وهذه نصوص في إظهار التضعيف ، فبعد هذا الوجه ، بل بطل .

                                                                                              والأولى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدمة ; فإنها أبعد عن الاعتراضات الواقعة ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله : ( يذر شهوته وطعامه من أجلي ) ; تنبيه على الجهة التي بها يستحق الصوم أن يكون كذلك ، وهو الإخلاص الخاص به ، كما قدمناه في الوجه الأول .

                                                                                              وقوله : ( الصيام جنة ) ، مادة هذه اللفظة التي هي : الجيم والنون كيف ما دارت صورها بمعنى : السترة ; كالجن ، والجنة ، والجنون ، والمجن ; فمعناه : أن الصوم سترة ، فيصح أن يكون ( جنة ) بحسب مشروعيته ; أي : ينبغي للصائم أن يعريه مما يفسده ، ومما ينقص ثوابه ; كمناقضات الصيام ، ومعاصي اللسان . وإلى هذه الأمور وقعت الإشارة بقوله : ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ، ولا [ ص: 214 ] يسخب ) إلخ ، ويصح أن يسمى : ( جنة ) بحسب فائدته ، وهو إضعاف شهوات النفس ، وإليه الإشارة بقوله : ( ويذر شهوته وطعامه من أجلي ) . ويصح أن يكون " جنة " بحسب ثوابه . وإليه التصريح بقوله : ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ) .

                                                                                              وقوله : ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب ) ، لا يفهم من هذا الشرط : أن غير يوم الصوم يباح فيه الرفث والسخب ، فإنهما ممنوعان على الإطلاق ، وإنما تأكد منعهما بالنسبة إلى الصوم .

                                                                                              والرفث : الفحش من الكلام ، والسخب منه . يقال : (رفث) بفتح الفاء ، (يرفث) ، بضمها ، وكسرها . و (رفث) بكسرها في الماضي (يرفث) بفتحها في المستقبل (رفثا) بسكونها في المصدر ، وفتحها في الاسم . ويقال : (أرفث) أيضا ، وهي قليلة .

                                                                                              و (السخب) : اختلاط الأصوات ، وكثرتها ، ورفعها بغير الصواب . يقال : بالسين والصاد . وعند الطبري : مكان : (لا يسخب) (لا يسخر) ; يعني : السخرية بالناس ، والأول هو المعروف .

                                                                                              والجهل في الصوم : هو العمل فيه على خلاف ما يقتضيه العلم . وقد روى النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا : (من لم يدع قول الزور ، والعمل به ، والجهل في الصوم ، فليس لله حاجة في ترك طعامه وشرابه) .

                                                                                              وقوله : ( فإن أحد سابه أو قاتله فليقل : إني صائم ) ; المسابة والمقاتلة مما لا تكون إلا من اثنين غالبا ، ولم تقع هنا إلا من أحدهما ، لكنه لما عرض أحدهما [ ص: 215 ] الآخر لذلك صدق اللفظ عليهما .

                                                                                              وظاهره : أن الصائم يقول ذلك القول المأمور به للساب ليسمعه ، وليعلمه اعتصامه بالصوم ، فينكف عن سبه . ويحتمل أن يراد أنه يقول ذلك لنفسه مذكرا لها بذلك ، وزاجرا عن السباب .

                                                                                              واختلف إذا سب الصائم أحدا ، أو اغتابه : فالجمهور على أن ذلك ليس بمفسد للصوم . وذهب الأوزاعي : إلى أن ذلك مفطر مفسد . وبه قال الحسن فيما أحسب .

                                                                                              وقوله : ( لخلوف فم الصائم ) ، هكذا الرواية الصحيحة ; بضم الخاء ، ومن لا يحقق بقوله بفتح الخاء . وقال الخطابي : هو خطأ . قال الهروي : خلف فوه : إذا تغير ، يخلف ، خلوفا . ومنه : حديث علي وسئل عن قبلة الصائم فقال : (وما أربك إلى خلوف فيها ؟) .

                                                                                              ويقال : نومة الضحى مخلفة للفم ; أي : مغيرة . قال صاحب " الأفعال " : خلف فوه ، وأخلف .

                                                                                              وقد أخذ الشافعي من هذا الحديث منع الصائم من السواك من بعد الزوال . قال : لأن ذلك الوقت مبدأ الخلوف ، قال : والسواك يذهبه . وربما نظم بعض الشافعية في هذا قياسا ، فقال : أثر عبادة فلا يزال كدم الشهيد .

                                                                                              وهذا القياس ترد عليه أسئلة من جملتها ; القول : ومع أن السواك يزيل الخلوف ، فإنه من المعدة والحلق ، لا من محل السواك ، وحينئذ لا يلزم شيء من ذلك . وقد أجاز كافة العلماء للصائم أن يتسوك بسواك لا طعم له ، في أي أوقات النهار شاء .

                                                                                              وقوله : ( أطيب عند الله من ريح المسك ) ; لا يتوهم : أن الله تعالى يستطيب الروائح ، ويستلذها ، كما يقع لنا من اللذة ، والاستطابة ; إذ ذاك من صفات افتقارنا ، واستكمال نقصنا ، وهو الغني بذاته ، الكامل بجلاله وتقدسه . على أنا نقول : إن الله تعالى يدرك المدركات ، ويبصر المبصرات ، ويسمع المسموعات على الوجه اللائق بجماله وكماله وتقدسه عن شبه مخلوقاته ، وإنما معنى هذه الأطيبية عند الله تعالى راجعة إلى أن الله تعالى يثيب على خلوف فم الصائم ثوابا [ ص: 216 ] أكثر مما يثيب على استعمال روائح المسك ، حيث ندب الشرع إلى استعماله فيها ، كالجمع والأعياد وغير ذلك . ويحتمل أن يكون ذلك في حق الملائكة ، فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك .

                                                                                              وقوله : ( وللصائم فرحتان : إذا أفطر فرح بفطره ) ; أي : فرح بزوال عطشه وجوعه حين أبيح له الفطر . وهذا الفرح طبيعي ، وهو السابق للفهم . وقيل : إن فرحه بفطره ; إنما هو من حيث إنه: تمام صومه ، وخاتمة عبادته ، وتحقيق ريه ومعونته على مستقبل صومه .

                                                                                              وأما قوله : ( وإذا لقي ربه فرح بصومه ) ; أي : بجزاء صومه وثوابه .




                                                                                              الخدمات العلمية