الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم رواه مسلم .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الرابع : وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم رواه مسلم . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) رواه مسلم من هذا الوجه عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة بلفظ والذي نفس محمد في يده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم ، وهذا اللفظ مخالف للفظ الذي نقلته ورويته عن والدي رحمه الله في هذه الأحكام فإن حاصل روايتنا إخباره عليه الصلاة والسلام أنه يأتي على الإنسان زمان يكون رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، وهو غريب فقير لا أهل له ولا مال أحب إليه من فقد رؤيته مع وجود الأهل والمال ، وأكد ذلك بتكرير اللفظ في قوله لأن يراني ثم لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله ، وهو عندي مقدم ومؤخر ، وتبعه القاضي عياض على ذلك ، وزاد أيضا التقديم والتأخير في قوله لا يراني أي رؤيته إياي أحظى عنده وأحب إليه ، وهو أفرح به من أهله وماله انتهى .

                                                            قال النووي ، والظاهر أن قوله في تقديم لأن يراني ، وتأخير ثم لا يراني [ ص: 158 ] كما قال : وأما لفظ معهم فهي على ظاهرها ، وفي موضعها ، وتقدير الكلام يأتي على أحدكم يوم لأن يراني فيه لحظة ثم لا يراني بعدها أحب إليه من أهله وماله جميعا انتهى .

                                                            وتوجيه ما قاله ابن سفيان ، وحكاه القاضي من تقدير تقديم معهم أن معناه لأن يراني موجودا كائنا معهم ، وجمع الضمير باعتبار الرأي وأصحابه ، ولهذا جاء في بعض الروايات معه بالإفراد نقلها القاضي ، وتوجيه بقائه على حاله مؤخرا عود الضمير في قوله معهم على الأهل أي إن رؤيته إياي أحب إليه من أهله ومن ماله مع أهله أيضا فإنه قد يسمح الإنسان بفراق أهله ، ولا يسمح بفراق ماله ، ويجوز أن لا يقدر قوله ، ولا يراني مؤخرا بل يبقى بحاله من التقديم ، والمعنى إنذاره عليه الصلاة والسلام بفراقه ، وأنه يأتي على أصحابه وقت لا يرونه فيه ، ولا يتمكنون من ذلك لوفاته ، ورؤيته في ذلك الوقت أحب إليهم من أهليهم وأموالهم ، ويوافق ذلك أن القرطبي لما ذكر لفظ مسلم قال كذا صحيح الرواية ، ولم يتعرض لشيء مما ذكره القاضي والنووي .



                                                            (الثانية) إن قلت ما معنى الإخبار بوقوع ذلك في المستقبل مع أن الواجب عليهم وعلى غيرهم أن يكون أحب إليهم من أموالهم وأهليهم ، ومن أنفسهم أيضا ، ويجب فداؤه لو احتيج إلى ذلك بالمال والنفس (قلت) ليس الكلام في ذاته الكريمة بل وفي رؤيته لحظة واحدة فلو خير صحابي في زمنه عليه الصلاة والسلام بين رؤيته في لحظة معينة وفقد أهله وماله ، وبين انتفاء رؤيته في تلك اللحظة مع بقاء أهله وماله فاختار بقاء أهله وماله لم يكن في ذلك محذور لأن انتفاء الرؤية تلك اللحظة لا يترتب عليه مفسدة ، وفقد الأهل والمال الذي بهما قيام الناس يحصل به الضرر البليغ فأخبر عليه الصلاة والسلام بغلبة الميل عند فقدهم رؤيته بحيث يؤثرون رؤيته لحظة واحدة ، ولو حصل فراقهم له عقبها على الأهل [ والمال ] ، والله أعلم .



                                                            (الثالثة) قال النووي مقصود الحديث حثهم على ملازمة مجلسه الكريم ، ومشاهدته حضرا وسفرا للتأدب بآدابه وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها ، وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من الزيادة من مشاهدته وملازمته ، ومنه قول عمر رضي الله عنه ألهاني [ ص: 159 ] عنه الصفق بالأسواق (قلت) وقد وجدنا ذلك في حق أنفسنا ومعلمينا [ فقد ] ندمنا غاية الندم على التقصير في ملازمتهم إلى وفاتهم ، وتبين لنا سوء الرأي في ظننا أن القدر الذي حصلناه عنهم كاف ، وفاتنا بذلك من المصالح ما لا نحصيه فكيف بسيد السادات صلى الله عليه وسلم .

                                                            (الرابعة) قال أبو العباس القرطبي معنى الحديث إخباره عليه الصلاة والسلام بأنه إذا فقد تغيرت الحال على أصحابه من عدم مشاهدته وفقد عظيم فوائدها ، ولما طرأ عليهم من الاختلاف والمحن والكرب والفتن ، وعلى الجملة فساعة موته اختلفت الآراء ونجمت الأهواء ، وكاد النظام ينحل لولا أن الله تعالى تداركه بثاني اثنين ، وأهل العقد والحل ، وقد عبر الصحابة عن مبدأ ذلك التغير لنا بقولهم ما سوينا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا فكلما حصل واحد منهم في كربة من تلك الكرب ود أنه يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما معه من أهل ومال ، وذلك لتذكره ما فات من بركات مشاهدته ، ولما حصل بعده من فساد الأمر وتغير حالته انتهى .

                                                            (الخامسة) هذا الحديث كالذي قبله والذي بعده في أن إيراده في هذا الباب للاستدلال به على الحلف بمثل قوله : والذي نفس محمد بيده كما تقدم في الحديث الذي قبله والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية