الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا

                                                                                                                                                                                                                                      هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات ، والمقصود نفي الظلم عنهن ، والخطاب للأولياء ، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها ، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله : - ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت . وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية : كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى يموت أو ترد إليه صداقها . وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه : فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها . وقد روي هذا السبب بألفاظ ، فمعنى لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أي : لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسونهن لأنفسكم ، ولا يحل لكم أن تعضلوهن عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن ، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري وأبو مجلز : كان من عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها ، فنزلت الآية . وقيل : الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طمعا في إرثهن ، أو يفتدين ببعض مهورهن ، واختاره ابن عطية . قال : ودليل ذلك قوله : إلا أن يأتين بفاحشة إذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى تذهب بمالها إجماعا من الأمة ، وإنما ذلك للزوج . قال الحسن : إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى [ ص: 282 ] وترد إلى زوجها ما أخذت منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قوم : الفاحشة البذاءة باللسان ، وسوء العشرة قولا وفعلا . وقال مالك وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا كله على أن الخطاب في قوله : ولا تعضلوهن للأزواج ، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله : ولا تعضلوهن لمن خوطب بقوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها فيكون المعنى : ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أي : ما آتاهن من ترثونه إلا أن يأتين بفاحشة مبينة جاز لكم حبسهن عن الأزواج ، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعف من الزنا ، وكما أن جعل قوله : ولا تعضلوهن خطابا للأولياء فيه هذا التعسف ، كذلك جعل قوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها خطابا للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه ، والأولى أن يقال : إن الخطاب في قوله : لا يحل لكم للمسلمين ; أي : لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرها كما تفعله الجاهلية ، ولا يحل لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم ; أي : تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهن ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من المهر يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم ، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهن . قوله : مبينة قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء . وقرأ الباقون بفتحها . وقرأ ابن عباس ( مبينة ) بكسر الباء وسكون الياء من أبان الشيء فهو مبين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وعاشروهن بالمعروف أي : بما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة ، وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم ، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر والرفاعة والوضاعة فإن كرهتموهن لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز فعسى أن يئول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة ، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد ، فيكون الجزاء على هذا محذوفا مدلولا عليه بعلته ; أي : فإن كرهتموهن فاصبروا فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وآتيتم إحداهن قنطارا قد تقدم بيانه في آل عمران والمراد به هنا المال الكثير فلا تأخذوا منه شيئا . قيل : هي محكمة ، وقيل : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله [ البقرة : 229 ] والأولى أن الكل محكم والمراد هنا غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئا . قوله : أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا الاستفهام للإنكار والتقريع . والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي . وقوله : وكيف تأخذونه إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ : وهي الإفضاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الهروي : وهو إذا كانا في لحاف واحد جامع أو لم يجامع ، وقال الفراء : الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها . وقال ابن عباس ومجاهد والسدي : الإفضاء في هذه الآية : الجماع ، وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة ، يقال للشيء المختلط فضاء ، ويقال القوم فوضى وفضاء ; أي : مختلطون لا أمير عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأخذن منكم ميثاقا غليظا معطوف على الجملة التي قبله ; أي : والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض ، وقد أخذن منكم ميثاقا غليظا وهو عقد النكاح ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وقيل : هو قوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقيل : هو الأولاد . قوله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء نهي عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا ، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال : إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشد المحرمات وأقبحها ، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت . قال ثعلب : سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها ، ويقال لهذا الضيزم ، وأصل المقت : البغض ، من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا ما قد سلف هو استثناء منقطع أي : لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ، وقيل : إلا بمعنى بعد ; أي : بعد ما سلف ، وقيل : المعنى ولا ما سلف ، وقيل : هو استثناء متصل من قوله : ما نكح آباؤكم يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال : يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا ، فلا يحل لكم غيره . قوله : وساء سبيلا هي جارية مجرى بئس في الذم والعمل ، والمخصوص بالذم محذوف ; أي : ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح ، وقيل : إنها جارية مجرى سائر الأفعال ، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت ، فتوفي عنها فجنح عليها ابنه ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح ، فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر [ ص: 283 ] الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام . قال ابن المبارك : أن ترثوا النساء كرها في الجاهلية ، ولا تعضلوهن في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : ولا تعضلوهن قال : لا تضر بامرأتك لتفتدي منك . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد ولا تعضلوهن يعني : أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كان العضل في قريش بمكة : ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها ، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قال : البغض والنشوز ، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير عن الضحاك نحوه أيضا . وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : الفاحشة هنا الزنا . وأخرج ابن جرير عن أبي قلابة وابن سيرين نحوه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : وعاشروهن بالمعروف قال : خالطوهن . قال ابن جرير : صحفه بعض الرواة ، وإنما هو خالقوهن ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : حقها عليك الصحبة الحسنة والكسوة والرزق المعروف . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل وعاشروهن بالمعروف يعني صحبتهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا فيطلقها فتتزوج من بعده رجلا فيجعل الله له منها ولدا ويجعل الله في تزويجها خيرا كثيرا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الخير الكثير أن يعطف عليها فترزق ولدها ويجعل الله في ولدها خيرا كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ما قال مقاتل . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : وإن أردتم استبدال زوج الآية ، قال : إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها فطلقت هذه وتزوجت تلك فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارا . وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى . قال السيوطي بسند جيد : أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت : أما سمعت ما أنزل الله يقول : وآتيتم إحداهن قنطارا فقال : اللهم غفرا ، كل الناس أفقه من عمر ، فركب المنبر فقال : يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . قال ابن كثير : إسناده جيد قوي ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة ، هذا أحدها . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الإفضاء هو الجماع ، ولكن الله يكني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : وأخذن منكم ميثاقا غليظا قال : الغليظ : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه وقال : وقد كان ذلك يؤخذ عنه عقد النكاح : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر كان إذا نكح قال : أنكحتك على ما أمر الله به ، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد في قوله : وأخذن منكم ميثاقا غليظا قال : أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو قول الرجل : ملكت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كلمة النكاح التي تستحل بها فروجهن . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه في قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس بن الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته . وأخرج ابن المنذر عن الضحاك إلا ما قد سلف إلا ما كان في الجاهلية . وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية قلت : أين تريد ؟ قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية