الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا جملة أولم يروا عطف على جملة ذلك جزاؤهم باعتبار ما تضمنته الجملة المعطوف عليها من الردع عن قولهم أإذا كنا عظاما ورفاتا ، فبعد زجرهم عن إنكارهم البعث بأسلوب التهديد عطف عليه إبطال اعتقادهم بطريق الاستدلال بقياس التمثيل في الإمكان ، وهو كاف في إقناعهم هنا ; لأنهم إنما أنكروا البعث باعتقاد استحالته ، كما أفصح عنه [ ص: 220 ] حكاية كلامهم بالاستفهام الإنكاري ، وإحالتهم ذلك مستندة إلى أنهم صاروا عظاما ورفاتا ، أي بتعذر خلق أمثال تلك الأجزاء ، ولم يستدلوا بدليل آخر ، فكان تمثيل خلق أجسام من أجزاء بالية بخلق أشياء أعظم منها من عدم أوغل في الفناء دليلا يقطع دعواهم .

والاستفهام في " أولم يروا " إنكاري مشوب بتعجيب من انتفاء علمهم ; لأنهم لما جرت عقائدهم على استبعاد البعث كانوا بحال من لم تظهر له دلائل قدرة الله تعالى ، فيئول الكلام إلى إثبات أنهم علموا ذلك في نفس الأمر .

والرؤية مستعملة في الاعتقاد ; لأنها عديت إلى كون الله قادرا ، وذلك ليس من المبصرات ، والمعنى : أولم يعلموا أن الله قادر على أن يخلق مثلهم ؟

وضمير " مثلهم " عائد إلى ما عاد إليه ضمير " يروا " وهو الناس في قوله وما منع الناس أي المشركين .

والمثل : المماثل ، أي قادر على أن يخلق ناسا أمثالهم ; لأن الكلام في إثبات إعادة أجسام المردود عليهم ، لا في أن الله قادر على أن يخلق خلقا آخر ، ويكون في الآية إيماء إلى أن البعث إعادة أجسام أخرى عن عدم ، فيخلق لكل ميت جسد جديد على مثال جسده الذي كان في الدنيا ، وتوضع فيه الروح التي كانت له .

ويجوز أن يكون لفظ " مثل " هنا كناية عن نفس ما أضيف إليه ، كقول العرب : مثلك لا يبخل ، وقوله تعالى ليس كمثله شيء على أحد تأويلين فيه ، أي على جعل الكاف الداخلة على لفظ " مثله " غير زائدة ، والمعنى : قادر على أن يخلقهم ، أي أن يعيد خلقهم ، فإن ذلك ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض .

ولعلمائنا طرق في إعادة الأجسام عند البعث فقيل : تكون الإعادة عن عدم ، وقيل : تكون عن جميع ما تفرق من الأجسام ، وقيل : ينبت من عجب [ ص: 221 ] ذنب كل شخص جسد جديد مماثل لجسده ، كما تنبت من النواة شجرة مماثلة للشجرة التي أثمرت ثمرة تلك النواة .

ووصف اسم الجلالة بالموصول ; للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وهو الإنكار عليهم ; لأن خلق السماوات والأرض أمر مشاهد معلوم ، وكونه من فعل الله لا ينازعون فيه .

وجملة وجعل لهم أجلا لا ريب فيه معطوفة على جملة " أولم يروا " لتأويلها بمعنى قد رأوا ذلك لو كان لهم عقول ، أي تحققوا أن الله قادر على إعادة الخلق ، وقد جعل لهم أجلا لا ريب فيه .

والأجل : الزمان المجعول غاية يبلغ إليها في حال من الأحوال ، وشاع إطلاقه على امتداد الحياة ، وهو المدة المقدرة لكل حي بحسب ما أودع الله فيه من سلامة آلات الجسم ، وما علمه الله من العوارض التي تعرض له فتخرم بعض تلك السلامة أو تقويها .

والأجل هنا محتمل لإرادة الوقت الذي جعل لوقوع البعث في علم الله تعالى .

ووجه كون هذا ( الجعل ) لهم أنهم داخلون في ذلك الأجل ; لأنهم من جملة من يبعث حينئذ ، فتخصيصهم بالذكر ; لأنهم الذين أنكروا البعث ، والمعنى : وجعل لهم ولغيرهم أجلا .

ومعنى كون الأجل لا ريب فيه : أنه لا ينبغي فيه ريب ، وأن ريب المرتابين فيه مكابرة ، أو إعراض عن النظر ، فهو من باب قوله ذلك الكتاب لا ريب فيه .

ويجوز أن يكون الأجل أجل الحياة ، أي وجعل لحياتهم أجلا ، فيكون استدلالا ثانيا على البعث ، أي : ألم يروا أنه جعل لهم أجلا لحياتهم ؟ فما أوجدهم ، وأحياهم ، وجعل لحياتهم أجلا إلا لأنه سيعيدهم إلى حياة أخرى ، [ ص: 222 ] وإلا لما أفناهم بعد أن أحياهم ; لأن الحكمة تقتضي أن ما يوجده الحكيم يحرص على بقائه ، وعدم فنائه ، فما كان هذا الفناء الذي لا ريب فيه إلا فناء عارضا ; لاستقبال وجود أعظم من هذا الوجود وأبقى .

وعلى هذا الوجه فوجه كون هذا الجعل لهم ظاهر ; لأن الآجال آجالهم ، وكونه لا ريب فيه أيضا ظاهر ; لأنهم لا يرتابون في أن لحياتهم آجالا ، وقد تضمن قوله وجعل لهم أجلا تعريضا بالمنة بنعمة الإمهال على كلا المعنيين ، وتعريضا بالتذكير بإفاضة الأرزاق عليهم في مدة الأجل ; لأن في ذكر خلق السماء والأرض تذكيرا بما تحتويه السماوات والأرض من الأرزاق وأسبابها .

وجملة فأبى الظالمون إلا كفورا تفريع على الجملتين باعتبار ما تضمنتاه من الإنكار والتعجيب ، أي علموا أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة الأجسام - ومع علمهم - أبوا إلا كفورا ، فالتفريع من تمام الإنكار عليهم ، والتعجيب من حالهم .

واستثناء الكفور من الإباية تأكيد للشيء بما يشبه ضده .

والكفور : جحود النعمة ، وتقدم آنفا ، واختير الكفور هنا تنبيها على أنهم كفروا بما يجب اعتقاده ، وكفروا نعمة المنعم عليهم ; فعبدوا غير المنعم .

التالي السابق


الخدمات العلمية