الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 28 ] الباب الرابع

                                                                                                                في

                                                                                                                الفروض المقدرة ومستحقيها

                                                                                                                وأصلها قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين وقوله تعالى في آخر السورة : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما .

                                                                                                                وفي البخاري : سئل أبو موسى الأشعري عن بنت وابنة ابن وأخت ، فقال :

                                                                                                                [ ص: 29 ] للبنت النصف وللأخت النصف ، وأت ابن مسعود فإنه سيتابعني ، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - : للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت
                                                                                                                .

                                                                                                                وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - لابنتي سعد بن الربيع من أبيهما الثلثين ، قال سحنون : وهو أول ميراث قسم في الإسلام .

                                                                                                                وفي الموطأ : جاءت الجدة للأم إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فسألته ميراثها فقال لها أبو بكر : ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - شيئا فارجعي حتى أسأل الناس ، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس ، فقال أبو بكر : هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة ، فأنفذه لها أبو بكر ، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فسألته ميراثها ، فقال لها : ما لك في كتاب الله تعالى شيء وما أظن القضاء الذي قضي به إلا لغيرك ، وما أنا بزائد في الفرائض ، ولكنه ذلك السدس ، فإن اجتمعتما فهو بينكما ، وأيكما خلت به فهو لها ، ويروى أنه أراد إسقاطها فقام إليه رجل من الأنصار فقال : يا أمير المؤمنين إنك لتسقط التي لو تركت الدنيا وما عليها لكان ابن ابنها وارثها ، وتورث التي لو تركت الدنيا وما عليها لم يكن لابن بنتها منها شيء ، فقال حينئذ ما قال .

                                                                                                                وقال ابن يونس : وعن مالك أن الجدتين أتتا أبا بكر - رضي الله عنه - فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم ، فقال له رجل من الأنصار : أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي لكان يرثها ، فجعل أبو بكر السدس بينهما .

                                                                                                                [ ص: 30 ] فوائد عشرون

                                                                                                                الفائدة الأولى

                                                                                                                في قوله تعالى : في أولادكم ولم يقل في أبنائكم ; لأن الولد يشمل الذكر والأنثى ، والابن خاص بالذكر .

                                                                                                                الفائدة الثانية

                                                                                                                في قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين لأن عقله مثل عقليهما ، وشهادته بشهادتيهما ، وديته بديتيهما ، فله من الإرث مثلهما ، وقيل لأنه يتزوج فيعطي صداقا وهي تأخذ صداقا ، فيزيد بقدر ما يعطي ويبقى له مثل ما أخذت فيستويان .

                                                                                                                الفائدة الثالثة :

                                                                                                                في قوله تعالى : فوق اثنتين اعتبر ابن عباس ظاهر اللفظ فجعل الثلثين للثلاث من البنات وللبنتين النصف ، واختلف فيها على رأي الجمهور ، فقيل زائدة وخطأه المحققون ، فإن زيادة الظرف بعيدة ، وقيل اثنتين فما فوقهما وهو خلاف الظاهر أيضا ، والصواب أن الله تعالى نص على الزائد على الاثنتين في البنات ولم يذكر الابنتين ، ونص على اثنتين في الأخوات ولم يذكر الزائد اكتفاء بآية البنات في الأخوات ، وبآية الأخوات في البنات ; لأن القرآن كالكلمة الواحدة يفسر بعضه بعضا ، وعلم فرض البنتين بالحديث النبوي فاستقامت الظواهر وقامت الحجة ; لأن الله تعالى إذا جعل الثلثين للأختين فالبنات أولى لقربهما ، ولأن البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث ، فأولى أن تأخذه مع أختها لأنها ذات فرض مثلها ، والتسوية بين البنتين والأخت الواحدة في النصف خلاف القياس والحديث المتقدم .

                                                                                                                الفائدة الرابعة :

                                                                                                                في قوله تعالى : وإن كانت واحدة فلها النصف لأن الذكر لو انفرد لكان له الكل ، فهي إذا انفردت لها النصف ; لأنها على النصف منه في الأحكام كما تقدم .

                                                                                                                [ ص: 31 ] الفائدة الخامسة

                                                                                                                في أن للاثنين الثلثين ; لأن الذكر إذا كان معه ابنة له الثلثان ، فجعل الابنتان بمنزلة ذكر في بعض أحواله ، فهو من باب ملاحظة ما تقدم من الحكمة في جعل الأنثى على النصف ، والكثير من البنات سقط اعتباره في التأثير في الزيادة ، كالذكور إذا كثر عددهم اشتركوا في نصيب الواحد إذا انفرد فسوى بين البابين في الإلغاء .

                                                                                                                الفائدة السادسة

                                                                                                                في قوله تعالى : ولأبويه سمى الأم أبا مجازا من باب التغليب ، وهو في لسان العرب يقع إما لخفة اللفظ كالعمرين فإن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر أو لفضل المعنى وخفته ، نحو :

                                                                                                                لنا قمراها والنجوم الطوالع فغلب لفظ القمر على الشمس لأنه مذكر والشمس مؤنثة ، والمذكر أخف وأفضل ، وإما لكراهة اللفظ لإشعاره بمكروه نحو قول عائشة - رضي الله عنها : وما لنا عيش إلا الأسودان ، تريد الماء والتمر ، والتمر أسود والماء أبيض وكلاهما مذكر وعلى وزن أفعل فلا تفاوت ، بل لفظ الأبيض يشعر بالبرص فغلبت الأسود عليه ، فهذه ثلاثة أسباب للتغليب في اللغة .

                                                                                                                الفائدة السابعة :

                                                                                                                في إعطاء السدس للأبوين لأنه أدنى سهام الفرائض [ المواريث ] في القرابات ، وكذلك في الخبر فيمن أوصى له بسهم من ماله ، قال : يعطى السدس والابن أقوى العصبات ، ومقتضاه حرمان الأب ، وبر الأب يقتضي عدم الحرمان فاقتصر له على أقل السهام ، وسويت الأم به ; لأنه من باب ملاحظة أصل البر لا من باب تحقيق المستحق .

                                                                                                                [ ص: 32 ] الفائدة الثامنة :

                                                                                                                في قوله تعالى : وورثه أبواه فلأمه الثلث لأنهما اجتمعا في درجة واحدة وهما ذكر وأنثى فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وقوله تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس ولم يذكر الأب ، وحجب بالإخوة ; لأن المال قبل نزول المواريث كان كله للعصبة فلما قسم الله تعالى لكل واحد ما سماه بقي الأب على مقتضى الأصل ، له ما بقي بعد السدس كالعام إذا خص ، ويأخذ الأب ما عدا السدس ؛ لأنه أقرب عصبة من الإخوة ، وحجبنا الإخوة إلى السدس لأن الأخ يدلي بالبنوة لأنه ابن أبيه ، وقد تقدم أن شأن البنوة إسقاط الآباء والأمهات ، وإنما يقتصر لهما على أدنى السهام ملاحظة لأصل بر الوالدين ، فالتحقيق أن الإخوة نزعوا من الأم ، والأب نزع من الإخوة السدس التي كانت الأم تأخذه معه ، ولم يحجب الأخ الواحد ( ولا الأخت الواحدة وإن حجب الولد الواحد لأن الولد الواحد ) ابن الميت والأخ ابن أبيه فهو أبعد رتبة فضوعفت الرتبة في البعد بواحد كما نقصت الرتبة في القرب بواحد ، فإن اجتمع ابنة وأخت فللبنت النصف وللأخت النصف ، أما البنت فلأنها نصف ابن كما تقدم ، وأما الأخت فلأنها ولد أبيه ، فبالأب تستحق ذلك ; لأنه لو حضر كان له ، ولأن العم ولد جده وهو يأخذه لو حضر ، وهذه ولد أبيه فهي أقرب منه ، ألا ترى أنها لو كانت أختا لأم لم تأخذ شيئا لهذا السر .

                                                                                                                الفائدة التاسعة

                                                                                                                في قوله تعالى : من بعد وصية يوصي بها أو دين جعل الميراث متأخرا عن الدين والوصية ، فانظر إنه قد تقدم مقادير وهي النصف والثلثان والسدس والثلث ومقدرات وهي الأنصباء من الأموال ، فهل المتأخر المقدار أو المقدر ؟ فإن كان المتأخر المقدار فيكون المعنى للبنت النصف ، وكونه نصفا إن تقدم على الدين زاد أو تأخر نقص ، فأخبر الله تعالى أن النصف المراد إنما هو النصف الذي يصغر بتأخيره عن إخراج الدين والوصية ، ويكون أصل التمليك [ لم [ ص: 33 ] يتعرض له بالتأخير ، أو أصل التمليك ] متأخر عن الدين ، فلا تكون التركة على ملك الورثة قبل وفاء الدين على هذا التقدير ، وتكون على ملكهم على التقدير الأول ، وهو أصل مختلف فيه بين العلماء ، وسيأتي بيانه في قسم التركات إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                الفائدة العاشرة

                                                                                                                لم قدم الوصية في اللفظ على الدين مع عدم وجوبها ووجوبه ، والشأن تقديم الأعم ؟ والجواب أن النفوس مجبولة على إهمال الوصية لعدم وجوبها في أصلها وعدم المعارضة فيها ، فقدمها الله تعالى ليشعر النفوس بميل صاحب الشرع لها فيبعد إهمالهم لإخراجها ، واستغنى الدين بقوة جناب المطالب به عن ذلك .

                                                                                                                وقال لي بعض الفضلاء : إنما قدم الوصية لأنه أضاف إليه بعد ، والميراث إنما يقسم بعدها لا بعد الدين [ فإن الدين يخرج أولا ثم الوصية ثم الميراث ، فلما كان الميراث إنما يقع بعد الوصية لا بعد الدين ] لأنها المتأخرة في الإخراج جعل اللفظ على وفق الواقع ، فقيل من بعد وصية ، ولو قال : من بعد دين أو وصية يوصي بها لكانت البعدية مضافة للدين وكان الدين يتأخر إخراجه عن الوصية وهو خلاف الإجماع .

                                                                                                                قلت له : هذا يتم لو قال بالواو المقتضية للجمع ، وإنما الآية بـ " أو " المقتضية أحدهما وحده ، فعلى هذا ميت له وصية بغير دين وآخر له دين بغير وصية ، فلم قدمت الوصية مع ضعفها مع أنها منفردة فيعود السؤال .

                                                                                                                قال : تكون " أو " بمعنى الواو .

                                                                                                                قلت : ينتقض المعنى نقضا شديدا إن جعلنا " أو " بمعنى الواو ، يكون الميراث متأخرا عن مجموعهما لا عن أحدهما ، ولا يلزم من ترجيح المجموع عليه ترجيح [ ص: 34 ] جزئه عليه ، فلا يلزم التأخير عن الدين وحده ، وإن جعلناها على بابها يكون الميراث متأخرا عن أحدهما ، ويلزم من تأخيره وترجيح أحدهما عليه ترجيح المجموع عليه ضرورة ، فظهر أن المعنى مع الواو ينتقض نقضا شديدا فلا يصار إليه .

                                                                                                                الفائدة الحادية عشرة :

                                                                                                                في قوله تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم لأن الزوج والزوجة كالشريكين المتعاونين على المصالح ، فلما افترقا كان له النصف ، ومع الولد الربع ; لأن الولد عضو منها فقدم عليه ، ولقوة المشاركة أشبه صاحب الدين الذي يقدم على الابن فجعل له نصف ما كان له ، وهو الفرق بين الزوج والأب له السدس أقل السهام ; لأنه صاحب رحم عري عن شائبة المشاركة والمعاملة ، وناسب الأب من وجه ; لأن للزوج أن يتزوج أربع نسوة فأعطي له من مالها بتلك النسبة وهي الربع أقل السهام ، كما أعطي الأب أقل السهام ، والمرأة لها الربع لأن الأنثى نصف الذكر كما تقدم ، ولها الثمن عند الولد لذلك ، ولأن لها ربع حده لأنه إذا تزوج أربع نسوة حصتها الربع وليس للزوج الزيادة على أربع فاستحقت الربع .

                                                                                                                الفائدة الثانية عشرة

                                                                                                                في قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة قيل هي مشتقة من الإكليل لأن الإنسان ينزل منه أبناؤه فهم تحته ، ولذلك يقول العلماء : الابن وإن سفل ، وينزل من آبائه ، ولذلك يقولون الأب وإن علا فهم فوقه ، وإخوته حوله ( مثل الأجنحة ، فإذا لم يكن له أبناء تحته ولا آباء فوقه بقي في الوسط وإخوته حوله ) عن يمينه وشماله فأشبه الإكليل ، وقيل من الكلال الذي هو التعب ، أي كلت الرحم عن ولادة الأبناء ، قال ابن يونس : وقيل يكفي في الكلالة عدم الولد ، وفي مسماها ثلاثة أقوال : قيل اسم للميت أي هو مع الورثة كالإكليل ، وقيل للورثة الذين ليس فيهم ولد ولا أب ، وقيل للفريضة التي لا يرث فيها ولد [ ص: 35 ] ولا والد ، وأجمع الناس على أن المراد بالإخوة هاهنا إخوة الأم ، وإن كان اللفظ صالحا لهم ولغيرهم من الإخوة .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية