الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1966 (22) باب

                                                                                              كراهية سرد الصوم ، وبيان أفضل الصوم

                                                                                              [ 1026 ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : بلغ نبي - صلى الله عليه وسلم- أني أصوم أسرد ، وأصلي الليل ، فإما أرسل إلي وإما لقيته فقال: ألم أخبر بك أنك تصوم ولا تفطر وتصلي الليل ؟ فلا تفعل .

                                                                                              وفي رواية : قال : فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك ونفهت نفسك ، فإن لعينك حظا ، ولنفسك حظا ، ولأهلك حظا ، فصم وأفطر ، وصل ونم ، وصم من كل عشرة أيام يوما ، ولك أجر تسعة . قال: إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله! قال: صم صيام داود قال: وكيف كان داود يصوم يا نبي الله ؟ ! قال: كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى . قال: من لي بهذه يا نبي الله ؟ ! قال: عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : لا صام من صام الأبد ، لا صام من صام الأبد .


                                                                                              رواه أحمد (2 \ 198)، والبخاري (1974)، ومسلم (1159) (186)، وأبو داود (1389)، والترمذي (770)، والنسائي (4 \ 209 و 215 ) .

                                                                                              [ ص: 224 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 224 ] (22) ومن باب: كراهية سرد الصوم

                                                                                              حديث عبد الله بن عمرو اشتهر وكثر رواته ، فكثر اختلافه حتى ظن من لا بصيرة عنده: أنه مضطرب . وليس كذلك ; فإنه إذا تتبع اختلافه ، وضم بعضه إلى بعض انتظمت صورته ، وتناسب مساقه ; إذ ليس فيه اختلاف تناقض ، ولا تهاتر ، بل يرجع اختلافه إلى أن ذكر بعضهم ما سكت عنه غيره ، وفصل بعض ما أجمله غيره . وسنشير إلى بعضه إن شاء الله تعالى .

                                                                                              وقوله : ( ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر ، وتصلي ) ; هذا إنما فعله عبد الله بعد أن التزمه بقوله : ( لأصومن النهار ، ولأقومن الليل ما عشت - كما جاء في الرواية الأخرى- فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحكى بعض الرواة الفعل ، وحكى بعضهم القول .

                                                                                              وقوله : ( لا تفعل ) نهي عن الاستمرار في فعل ما التزمه لأجل ما يؤدي إليه من المفسدة التي نبه عليها بقوله : ( فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك ) ; قال المفسرون : أي : غارتا ودخلتا .

                                                                                              قلت : وتحقيقه : هجمت على الضرر دفعة واحدة . فإن الهجم هو : أخذ الشيء بسرعة بغتة . ويحتمل أن يكون معناه : هجمت العين عليه بغلبة النوم لكثرة السهر السابق ، فينقطع عما التزم ، فيدخل في ذم من ابتدع رهبانية ولم يرعها ، وكما قال له : ( يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان ; كان يقوم الليل ، فترك قيام الليل ) .

                                                                                              [ ص: 225 ] وقوله : ( ونفهت نفسك ) ; أي : أعيت ، وضعفت عن القيام بذلك ، كما قال في لفظ آخر : ( نهكت نفسك ) .

                                                                                              وقوله : ( فإن لعينك حظا ، ولنفسك حظا ) ; أي : من الرفق بهما ، ومراعاة حقهما ، وقد سمى في الرواية الأخرى : الحظ : ( حقا ) ; إذ هو بمعناه ، وزاد : ( فإن لزوجك عليك حقا ، ولزورك عليك حقا ) ، وفي لفظ آخر : ( ولأهلك ) مكان ( ولزوجك ) .

                                                                                              وأما حق الزوجة فهو في الوطء ، وذلك إذا سرد الصوم ، ووالى القيام بالليل منعها بذلك حقها منه .

                                                                                              وأما حق الزور - وهو الزائر والضيف - فهو : القيام بإكرامه ، وخدمته ، وتأنيسه بالأكل معه .

                                                                                              وأما الأهل فيعني به هنا : الأولاد ، والقرابة . وحقهم : هو في الرفق بهم ، والإنفاق عليهم ، ومؤاكلتهم ، وتأنيسهم . وملازمة ما التزم من سرد الصوم ، وقيام الليل يؤدي إلى امتناع تلك الحقوق كلها .

                                                                                              ويفيد : أن الحقوق إذا تعارضت قدم الأولى .

                                                                                              وقوله : ( صم من كل عشرة يوما ) ; هذا في المعنى موافق للرواية التي قال فيها : ( صم من كل شهر ثلاثة أيام ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ) ; وكذلك قوله في الرواية الأخرى : ( صم يوما ولك أجر ما بقي ) ، على ما يأتي . وهذا الاختلاف وشبهه من باب النقل بالمعنى .

                                                                                              وقوله : ( فصم صوم داود ) ; هكذا جاء في هذه الرواية ، سكت فيها عن المراتب التي ثبتت في الرواية الآتية بعد هذا ، وذلك أن فيها نقلة من صيام ثلاثة [ ص: 226 ] أيام في الشهر إلى أربعة فيها ، ومنها إلى صوم يومين وإفطار يومين ، ثم منها إلى صوم يوم وإفطار يوم . وهذا محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - درجه في هذه المراتب هكذا ، لكن بعض الرواة سكت عن ذكر بعض المراتب إما نسيانا ، أو اقتصارا على قدر ما يحتاج إليه في ذلك الوقت ، ثم في وقت آخر ذكر الحديث بكماله .

                                                                                              وقوله : ( فصم صوم داود ; فإنه كان أعبد الناس ) ; إنما أحاله على صوم داود ، ووصفه : بأنه كان أعبد الناس لقوله تعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب قال ابن عباس : الأيد هنا : القوة على العبادة . و (الأواب) : الرجاع إلى الله تعالى وإلى عبادته ، وتسبيحه .

                                                                                              وقوله : ( ولا يفر إذا لاقى ) ; تنبيه على أن صوم يوم ، وإفطار يوم لا يضعف ملتزمه ، بل يحفظ قوته ، ويجد من الصوم مشقته كما قدمناه ، وذلك بخلاف سرد الصوم فإنه ينهك البدن والقوة ، ويزيل روح الصوم ; لأنه يعتاده ، فلا يبالي به ، ولا يجد له معنى .

                                                                                              وقول عبد الله بن عمرو : ( من لي بهذه ) ; إشارة إلى استبعاد عدم الفرار ، وتمني أن لو كانت له تلك القوة . ومعنى قوله : (من لي بهذا الشيء) ; أي : من يتكفل لي به ؟ أو من يحصله لي ؟ .

                                                                                              وقول عطاء : ( فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد ؟ ) . هو شك عرض للراوي ، ثم [ ص: 227 ] قال بعد أن عرض له ذلك الشك : ( لا صام من صام الأبد ) ، فأتى بصوم الأبد على هذا اللفظ من غير شك ولا تردد ، بل حقق نقله ، وحرر لفظه .

                                                                                              وأما الذي تقدم في حديث أبي قتادة : فإنه شك في أي اللفظين قال ، فذكرهما ، فقال فيه : قال : يا رسول الله! كيف من يصوم الدهر ؟ ! قال : (لا صام ، ولا أفطر) ، أو : (لم يصم ، ولم يفطر) . وقد تقدم القول على صوم الدهر .

                                                                                              و ( الأبد ) : من أسماء الدهر . والمراد به هنا : سرد الصوم دائما ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية