الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 296 ] [فصل]

والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو أشكل الأشياء ليستدل به على ما سواه، والفرائض من أشكلها، إذ نفاة القياس عدلوا في كثير منها عن دلالة النص إلى أن أثبتوا ما ظنوه مجمعا عليه، ونفوا ما ظنوه غير مجمع عليه، وكلاهما غلط:

أما الأول: فقد بيناه.

وأما الثاني: فتقديره عدم الإجماع إذا انتفى دليل بمعين، فلابد من نفي سائر الأدلة الشرعية، كما ذكروه في مسألة المشركة، فإنه لو قدر ثبوت ميراث أحدهما بالإجماع، فعدم الإجماع عن الآخر لا ينفي ميراثه، إذ لم تنتف سائر الأدلة. [ ص: 297 ]

فنقول: النص والقياس- وهما الكتاب والميزان- دلا على أن الثلث يختص به ولد الأم، كما هو قول علي رضي الله عنه ومن وافقه، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى عنه حرب التشريك، وهو قول زيد ومن وافقه، وقول مالك والشافعي.

واختلف في ذلك عن عمر وعثمان وغيرهما [من الصحابة]، حتى قيل: إنه اختلف فيها عن جميع الصحابة إلا علي وزيد رضي الله عنهما؟ فإن عليا رضي الله عنه لم يختلف عنه أنه لم يشرك، وزيد رضي الله عنه لم يختلف [عنه] أنه شرك . [ ص: 298 ]

قال العنبري : القياس ما قال علي رضي الله عنه، [والاستحسان ما قال زيد. قال الخبري : هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة .

فيقال: النص والقياس دلا على ما قال علي] . أما النص فقول الله تعالى: فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث . والمراد به: ولد الأم، فإذا أدخلنا فيهم ولد الأبوين لم يشتركوا في الثلث بل زاحمهم غيرهم.

وإن قيل: ولد الأبوين منهم لكونه من ولد الأم، فهذا غلط، لأن الله تعالى قال: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس الآية . [ ص: 299 ]

وفي قراءة ابن مسعود وسعد : "من أم". والمراد ولد الأم بالإجماع، ودل على ذلك قوله: فلكل واحد منهما السدس ، وولد الأبوين لم يفرض لواحد منهما السدس. وأيضا فإنه قد ذكر حكم ولد الأبوين والأب في آية الصيف في قوله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها . فجعل لها النصف، وله جميع المال، وهذا حكم ولد الأبوين. ثم قال: وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين . وهذا حكم ولد الأبوين لا الأم، باتفاق المسلمين.

ودل ذكره تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، ولذلك الحكم في تلك الآية، على أن أحد الصنفين غير الآخر. فلا يجوز أن يكون [ ص: 300 ] ذلك الصنف هو هذا الصنف، وهذا الثاني هو ولد الأبوين والأب بالإجماع. فالأول ولد الأم كما في القراءة الأخرى التي تصلح أن تكون مفسرة لقراءتنا، ولهذا ذكر ولد الأم في آية الزوجين، والزوجان أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه، وكذلك ولد الأم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه. وكلاهما لا حظ له في التعصيب بحال . بخلاف من ذكر في آية العمود وفي آية الصيف، فإن لجنسهم حظا في التعصيب. ولهذا قال سبحانه في آية الشتاء: غير مضار ، ولم يذكر في آية العمود، لأن الإنسان كثيرا ما يقصد ضرر الزوج وولد الأم، لأنهم ليسوا من عصبتهم، بخلاف أولاده وآبائه، فإنه لا يضارهم في العادة.

وإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث، فمن نقصهم منه فقد ظلمهم. وولد الأبوين جنس آخر، هم عصبة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى [ ص: 301 ] رجل ذكر" . وهذا يقتضي أنه إذا لم تبق الفرائض لم يكن للعصبة شيء، وهنا لم تبق الفرائض شيئا.

وأما قول القائل : "هب أن أباهم كان حمارا، فقد اشتركوا في الأم "، فقول فاسد حسا وشرعا. أما الحس فلأن الأب لو كان حمارا لكانت الأم أتانا، ولم يكونوا من بني آدم.

وإذا قيل: قدر وجوده كعدمه.

فيقال: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون معدوما.

وأما الشرع فلأن الله حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم.

وإذا قيل: فالأب إن لم ينفعهم لم يضرهم. [ ص: 302 ]

قيل: بل قد يضرهم ولا ينفعهم، بدليل ما لو كان ولد الأم واحدا وولد الأبوين كثيرين، فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي يكون لهم كلهم، ولولا الأب لشاركوا هم وذلك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يحرمهم، فعلم أنه قد يضرهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية