الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            في النظم وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها ، فقوله : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) كقوله تعالى : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) [ الأنفال : 61 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه ، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله ، وربما ظهر أنه كان مسلما ، فمنع الله المؤمنين عنه وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد ، فإنه إن كان كافرا لا يضر المسلم أن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام ، أما إن كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : التحية تفعلة من حييت ، وكان في الأصل تحيية ، مثل التوصية والتسمية ، والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الأربعة ، نحو قوله : ( وتصلية جحيم ) [ الواقعة : 94 ] فثبت أن التحية أصلها [ ص: 167 ] التحيية ثم أدغموا الياء في الياء .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا : حياك الله ، واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة ، فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله ، فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام ، فجعلوا التحية اسما للسلام . قال تعالى : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 44 ] ومنه قول المصلي : التحيات لله ، أي السلام من الآفات لله ، والأشعار ناطقة بذلك . قال عنترة :


                                                                                                                                                                                                                                            حييت من طلل تقادم عهده



                                                                                                                                                                                                                                            وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                            إنا محيوك يا سلمى فحيينا



                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قول القائل لغيره : السلام عليك أتم وأكمل من قوله : حياك الله ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة ، وليس إذا كان حيا كان سليما ، فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات ، فثبت أن قوله : السلام عليك أتم وأكمل من قوله : حياك الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن السلام اسم من أسماء الله تعالى ، فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد إبقاء السلامة على عباده أكمل من قوله : حياك الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن قول الإنسان لغيره : السلام عليك فيه بشارة بالسلامة ، وقوله : حياك الله لا يفيد ذلك ، فكان هذا أكمل . ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول ، أما القرآن فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل ، ألا ترى أنه قال في وصف ذاته : الملك القدوس السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا ، فقال : ( قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) [ هود : 48 ] والمراد منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : سلم عليك على لسان جبريل ، فقال : ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ) [ القدر : 5 ] قال المفسرون : إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، فقال الله : لا تهتم لذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا ، إلا إني جعلت جبريل خليفة لك ، ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال : ( والسلام على من اتبع الهدى ) [ طه : 47 ] فإذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : سلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) [ النمل : 59 ] وكل من هدى الله إلى الإيمان فقد اصطفاه ، كما قال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) [ فاطر : 32 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلام على سبيل المشافهة ، فقال : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) [ الأنعام : 54 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتسليم عليك قال : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : سلم عليك على لسان ملك الموت فقال : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ) [ النحل : 32 ] قيل : إن ملك الموت يقول في أذن المسلم : السلام يقرئك السلام ، ويقول : أجبني فإني مشتاق إليك ، واشتاقت الجنات والحور العين إليك ، فإذا سمع المؤمن البشارة ، يقول لملك الموت : للبشير مني هدية ، ولا هدية أعز من روحي ، فاقبض روحي هدية لك .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة ، قال تعالى : ( وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين ) [ الواقعة : 91 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : سلم الله عليك على لسان رضوان خازن [ ص: 168 ] الجنة فقال تعالى : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) [ الزمر : 73 ] إلى قوله : ( وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم ) [ الزمر : 73 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والحادي عشر : إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم . قال تعالى : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 24 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني عشر : السلام من الله من غير واسطة وهو قوله : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 44 ] وقوله : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 57 ] وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات : وقت الابتداء ، ووقت الموت ، ووقت البعث ، والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فإنما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال : ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) [ مريم : 15 ] وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال : ( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) [ مريم : 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 55 ] يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا : السام عليك ، فحزن الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى ، فبعث الله جبريل عليه السلام وقال : إن كان اليهود يقولون السام عليك ، فأنا أقول من سرادقات الجلال : السلام عليك ، وأنزل قوله : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [ الأحزاب : 55 ] إلى قوله : ( وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 56 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبد الله بن سلام قال : لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس ، فأول ما سمعت منه : " يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قالوا : تحية النصارى وضع اليد على الفم ، وتحية اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع ، وتحية المجوس الانحناء ، وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا : حياك الله ، وللملوك أن يقولوا : أنعم صباحا ، وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات . ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الوعد بالنفع يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر ، أما الوعد بترك الضرر فإنه يكون قادرا عليه لا محالة ، والسلام يدل عليه . فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية